الخميس، 6 سبتمبر 2018

أخيرًا: ثانويات وأقسام متخصصة!!؟

منتديات الشروق أونلاين
أخيرًا: ثانويات وأقسام متخصصة!!؟
أخيرًا: ثانويات وأقسام متخصصة!!؟
أبو بكر خالد سعد الله
أستاذ جامعي قسم الرياضيات / المدرسة العليا للأساتذة- القبة


كان الوزير الأول قد أصدر يوم 22 جويلية الماضي مرسوما في الجريدة الرسمية حول تأسيس نمط من الثانويات أطلق عليها اسم “الثانويات المتخصصة”، وقد استغربنا: كيف أن وسائل الإعلام لم تتعرض إلى هذا الموضوع رغم أهميته البالغة في الشأن التربوي ومستقبل البلاد المرتبط برأس المال البشري!!؟.
فالخطوة في حد ذاتها تعتبر إيجابية على أكثر من صعيد، غير أن هذه الإيجابية قد لا تكون: إذا لم يتم ترتيب الأمور بإحكام، والأمثلة على فشل سلطاتنا في عدة مبادرات من هذا القبيل تدعونا إلى التخوف والتحذير.
انظر مثلا إلى دور:( مجمع اللغة العربية، والأكاديمية الجزائرية للعلوم والتكنولوجيا، والمدارس التحضيرية، وثانوية الرياضيات…)، فكلها مؤسسات لم يرق دورها:(إن كان لها نشاط يُذكر!!؟) إلى المستوى المرجو منها.

متطلبات الثانويات المتخصصة:
جاء في نص المرسوم:" يُقصد بالثانوية المتخصصة: المؤسسة العمومية للتربية والتعليم التي تضمن تعليما ثانويا عاما وتكنولوجيا موجها إلى التلاميذ ذوي المواهب المتميزة …”.
ويُفهم من بقية النص: أن هذا النوع من الثانويات يمكن أن يفتح في عدة مناطق عبر الوطن. وهذا جميل لو كان ممكنا!.
لكن وضع ثانوية الرياضيات بالعاصمة -التي تعتبر ثانوية متخصصة بهذا المفهوم- يبيّن أن الوزارة غير قادرة على توفير أفضل المكونين لمثل هذه الثانويات إن تعددت، ولعل أهم عائق في هذا الموضوع هو: العامل المادي، والكل يعلم ما تدرّ الدروس الخصوصية من أموال على الأساتذة، وهؤلاء غير مستعدين للتضحية بوقتهم من أجل تكوين النخب: ما لم تعوضهم الإدارة ماديا بما يكون بديلا لما يكسبونه من الدروس الخصوصية.
إنه وضع محزن: أن يتهرب المتميّزون من تكوين المتميزين، ولذا فالأمر يتطلب من الوزارة معالجة حكيمة كي لا تفتح ثانويات متخصصة لتصبح شبيهة بالمؤسسات العادية أو أسوأ منها.
وبخصوص اختيار الأستاذة المكونين لهذه الثانويات يوضح المرسوم الكيفية، فيقول :“يُنتقى أساتذة الثانوية المتخصصة والأقسام المتخصصة من بين الأساتذة المبرزين، والأساتذة المكونين في التعليم الثانوي…”. والفئة الأنسب -حسب التجربة الفرنسية الناجحة في هذا المجال- هي فئة الأساتذة المبرزين الذين تُدفع لهم أجور تعادل أجور أساتذة الجامعات.
والسؤال المطروح هنا ذو شقين:
الشق الأول: أين هم المبرزون؟، وهل هناك نية لتكوينهم؟، علما أن العملية انطلقت منذ نحو 20 سنة بالتعاون مع المدارس العليا للأساتذة، ثم توقفت قبل تخرج الدفعة الأولى!!؟.
الشق الثاني: هل السلطات مستعدة للتعامل مع هؤلاء ماديا بشكل مغرٍ كما هو الشأن في فرنسا!!؟.


الأقسام المتخصصة:
ثم جاء في المرسوم:” تفتح أقسام متخصصة عند الحاجة في الثانويات، للتكفل بالاحتياجات الخاصة للتلاميذ ذوي المواهب المتميزة …”.
نعتقد أن فتح الأقسام المتخصصة من هذا القبيل عبر التراب الوطني (لنقلْ قسما واحدا في كل ولاية في بداية الأمر بنحو 20 تلميذا) إجراء بالغ الأهمية، لأن ذلك سيجعلنا نكوّن نخبة تتألف من ألف تلميذ سنويا، ثم نضاعف العدد بعد التحكم في زمام الأمور، ولا شك أبدا بأن التركيز على فتح أقسام متخصصة بهذا الشكل: أفضل بكثير من تعدد الثانويات المتخصصة، وأقل تكلفة وعناء للإداريين.

ما الفائدة من البكالوريا الدولية!!؟:
كما نص المرسوم على التالي:“ يمكن أن يرخص للثانوية المتخصصة، بطلب منها، بضمان تعليم مكمل مطابق لبرنامج شهادة دولية يخول الحق في الحصول على بكالوريا دولية، إضافة إلى البكالوريا الوطنية …”.
هنا نسأل: ما الفائدة من البكالوريا الدولية التي أحدثت عام 1968 لتسمح للتلاميذ بمواصلة تعليمهم في بعض البلدان مباشرة دون الحاجة إلى إعادة إجراء بكالوريا تلك البلدان؟.
نلاحظ أن الجامعات المرموقة التي ينبغي أن يلتحق بها المتفوّقون جامعات يهمها المستوى العلمي للطالب، وليست الشهادة.
إذا اعتبرنا البكالوريا الفرنسية مثلا، فأي فرق بينها وبين بكالوريا الجزائر؟، إذ قاربت نسبة الحاصلين عليها في فرنسا 90%، وقد روى لنا زملاء يعملون في فرنسا سلوكات لا تُصدق تقع خلال مداولات البكالوريا الفرنسية من حيث التساهل مع التلاميذ، وإنقاذهم بتضخيم علاماتهم حتى تصل نسبة النجاح إلى هذا المستوى.
أما الالتحاق بالجامعات الأمريكية أو البريطانية وأمثالها، فهو يتطلب بوجه خاص مستوى عال في اللغة الانكليزية من النادر أن يتمكن منه تلميذ بمجرد حصوله على البكالوريا، ولذا لا نعتقد أن البكالوريا الدولية لها من الأهمية ما يجعلنا نوليها الأولوية، والأجدر أن نعدّ التلاميذ إلى الدخول إلى أقسام امتياز داخل جامعاتنا خلال السنوات الأولى.

دور وزارة التعليم العالي:
ومن بين ما تسعى إليه السلطات من خلال الثانويات والأقسام المتخصصة هو:“دعم وتطوير القدرات الابتكارية والإبداعية لدى التلاميذ …”، وكذا تحضيرهم:“للالتحاق بالمدارس العليا للتعليم العالي”.
أما الشطر الأول من مادة المرسوم حول دعم قدرات التلاميذ، فلا نقاش فيه. وأما الشطر الثاني الخاص بالتحاقهم بالمدارس العليا، فهذا يتطلب من وزارة التعليم العالي أن تعتني أكثر بمستوى هذه المدارس.
علينا أن ندرك بأن ما يسمى لدينا بـ:”المدارس العليا للتعليم العالي” لا تستحق معظمها هذه التسمية، فشأنها شأن المدارس التحضيرية التي كان من المفترض أن يكون فيها أفضل الطلبة وأفضل الأساتذة وأفضل الإدارات. لكن أين نحن اليوم من كل هذا “التفضيل”!!؟.
كما أشار المرسوم إلى ضرورة:“تدريب التلاميذ الذين يثبتون تفوقا ملحوظا في مادة أو تخصص لتمثيل الجزائر في المنافسات العلمية الدولية”.
بطبيعة الحال، فهذا سيكون من المحفزات البارزة للتنافس على التحصيل العلمي، وهو تنافس لن يمس شريحة ضيقة، بل ستصل تداعياته الإيجابية إلى بقية التلاميذ عبر الوطن.
أملنا كبير: أن يفتح هذا المرسوم باب التنافس العلمي على مصراعيه لدى تلاميذنا، وأن تعتني وزارة التعليم العالي بالمؤسسات التي ستستقبل هؤلاء المتفوقين، ليحقق هذا المشروع الوطني غايته.
مرسيدس تفرج عن "المركبة الصامتة"!



استعرضت مرسيدس رسميا سيارة "EQC" الكروس أوفر المميزة، في إطار سعيها لإثبات جودة منتجاتها في مجال السيارات الكهربائية.
ويشبه تصميم هذه السيارة الكهربائية سيارات "GLC" التي أصدرتها مرسيدس في العامين الأخيرين، لكن هيكلها أتى أطول بمقدار 105 ملم تقريبا، وأضيق بقليل.


الإشكاليَّاتُ اللغويّة في مواقعِ التّواصلِ الاجتماعيّة
الإشكاليَّاتُ اللغويّة في مواقعِ التّواصلِ الاجتماعيّة
د. عاطف العيايدة


الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:



إنَّ الوظيفةَ الأساسيّةَ للغةِ هيَ: إنجازُ المهامِّ الإنسانيّةِ، وتوطيدُ العلاقاتِ الاجتماعيّة، من خلالِ تحسُّنِ النَّشاطِ اللغويِّ للأفرادِ ضمْنَ البيئةِ الّتي يعيشونَ فيها، ويستخدمونَ فيها لغةً ما، وحتّى تضمنَ اللغةُ ديمومتَها: لابدَّ من وضعِ قواعدَ مؤسِّسةٍ تستطيعُ تحمَّلَ البنى الكلاميّةَ الّتي يتعلّمها النَّاسُ، وعلى أساسِها يستخدمونَ لغاتهم، واللغةُ العربيّةُ واحدةٌ من أهمِّ اللغاتِ الّتي استخدمها الخلقُ في منظومِ كلامِهمْ، وكتابةِ تاريخهم، وتسجيلِ وقائعهم الحضاريّةِ؛ لتصبحَ لغةً جماهيريّةً محصَّنةً بالأطرِ النّحويّةِ والصّرفيّةِ والصَّوتيّةِ والنّظريَّاتِ اللغويّة، وفوقَ ذلكَ بالقرآنِ المعجزِ المنزلِ باللغةِ العربيّةِ.
فاللغةُ العربيّةُ لغةٌ اجتماعيّةٌ بامتيازٍ، في خصائِصِها وقاموسِها المعجميّ وإمكاناتِها العالية وأنظمتِها المتنوّعةِ المترابطةِ في نسقٍ تسلسليٍّ واحدٍ، ولا يخامرنا الشَّكُّ في أنَّ اللغةَ العربيّةَ لغةٌ صالحةٌ لكلِّ الأزمنةِ والأمكنةِ، وكفاءتُها مشهودٌ لها في القرآنِ الكريمِ الّذي جاءَ:[ بلسانٍ عربيٍّ مبينٍ]، وقدْ أثبتَ رصيدُها الحضاريُّ والتّاريخيُّ قوامتَها على سائِرِ اللغاتِ الأخرى، فهي حاضنةُ التراثِ والإبداعِ والأدبِ، وبها تناقلَت الأجيالُ أحداثًا طويلةً من التّاريخِ والعصورِ البائدةِ، فهيَ (أيقونةُ الخلودِ) كأداةٍ تواصلٍ على مرِّ الأزمانِ، لحفظِ الأنسابِ، وتسجيلِ معالمِ التَّاريخِ، وتثبيتِ دعائمِ العلومِ بشتَّى أنواعِها، وبناءِ جسورٍ من العلاقاتِ الإنسانيّةِ الاجتماعيّةِ.
ولا يمكنُ التّسليمُ بمقولةِ الثّباتِ اللغويّ لأيِّ لغةٍ من اللغاتِ الّتي تداولَها بنو البشرِ، وشكّلتْ فيما بينهمْ قنواتٍ منَ الاتّصالِ الاجتماعيِّ والتّعارفِ الشّخصيِّ، فاللغةُ حاجةٌ اجتماعيّةٌ لمْ تتحقّقْ لولاها روابطُ التّواصلِ والتّماسكِ في المجتمعاتِ، فهيَ أداةُ التّخاطبِ اليوميِّ في جميعِ المجالاتِ الّتي يمارسُ فيها الفردُ نشاطاتِه وحياتَه، وهي عصبُ التَّأثيرِ الّذي من خلالِهِ تتحقّقُ التّفاهماتُ، وتُبدى الآراءُ، ويُعبَّرُ عن المشاعرِ، فهيَ باختصارٍ كما قالَ (هدجر): " منزلُ الكائنِ البشريِّ ".
واللغةُ العربيّةُ شأنُها شأنُ اللغاتِ الأخرى لغةٌ متطوّرةٌ وناميةٌ لا تقفُ عندَ حدٍّ من حدودِ الانجمادِ اللّغويّ العاجزِ عنْ مسايرةِ الانفلاتِ السّريعِ في عجلةِ التّطوّرِ التّكنولوجيّ والبشريّ، فما يصلحُ من ممارسةٍ لغويّةٍ في مرحلةٍ زمنيّةٍ متأخِّرةٍ قد لا يصلحُ لذاتِ الممارسةِ اللغويّةِ في مرحلةٍ زمنيّةٍ متقدّمةٍ، على أنَّ التّطوّرَ اللغويّ لا يتأصّلُ في سياقِ الوصفِ التّاريخيّ ما لمْ ينطلقْ من أساسٍ واضحٍ، ونهجٍ قويمٍ معَ مخالفةِ فكِّ القيودِ، ونقضِ الشّروطِ عن اللغةِ العربيّةِ الّتي نشأتْ ونمتْ وتطوّرتْ على ألسنةِ المتكلّمين، معَ الأخذِ بعينِ الاعتبارِ: أنَّ اللغةَ ليستْ صنيعةَ الأفرادِ، لكنّها ناشئةٌ في أحضانِ المجتمعاتِ، وترقى برقيّها، وتنحطُّ بانحطاطِها.
وبعيدًا عن التّطوّرِ المُطَّردِ للغةِ العربيّةِ في مكوّناتِها اللفظيّةِ، كأصواتِها وعناصرِها هناكَ تطوّرٌ من نوعٍ آخر نلمسُهُ في أيَّامِنا هذهِ من خلالِ فضاءاتِ التّواصلِ الاجتماعيّ الإلكترونيِّ التي تحتلُّ موقعَ الصَّدارةِ في عمليّاتِ التّواصلِ، والّتي أصبحتْ ميدَانًا فسيحًا لكلِّ مَنْ هبَّ ودبَّ، بمجرّدِ إِضاءةِ لوحةِ مفاتيحِ الهواتفِ النَّقَّالةِ، أو الضَّغطِ على مفتاحِ التّشغيلِ لأجهزةِ الحاسوبِ المحمولةِ بأنواعِها المتعدّدةِ، هذا التّطوّرُ الّذي ينبئُ عنْ حالاتٍ من الإضرارِ باللغةِ العربيّةِ، عبرَ تحوّلِها إلى أداةِ تخاطبٍ ذاتِ مستوىً متدنٍّ أثناءَ وضعِ المشاركاتِ، أو المحادثاتِ الّتي لا تخضعُ لرقيبٍ ولا لحسيبٍ.
فالملاحظُ أنَّ مستوى الأداءِ اللغويّ الذي يمارسهُ مستخدمو شبكاتِ التّواصلِ الاجتماعيّ داخلَ غرفِ الحوارِ والدّردشةِ قدْ بلغَ درجةً هابطةً من الانحدارِ قياسًا معَ الإحصائيّاتِ الرّقميّةِ لمستخدمي شبكاتِ التّواصلِ الاجتماعيّ من النّاطقينَ باللغةِ العربيّةِ، وهذا يشكّلُ خطورةً على قوّةِ الأداءِ اللغويّ في سياقهِ الاجتماعيّ، ويجرُّ اللغةَ العربيّةَ إلى وادٍ سحيقٍ من التَّدهورِ والتّراجعِ، وبالتَّاليْ إلى ضعفِ الممارسةِ اللغويّةِ السّليمةَ الّتي تمثِّلُ درعَ الوقايةَ للغةِ العربيّةِ من الابتذالِ والانسياقِ وراءَ المستحدثاتِ اللغويّةِ الطّارئةِ على اللغة العربيّةِ، والوقوعِ في كمائنِ المنعطفاتِ الخطيرةِ المرسومةِ من أعداءِ الأمّةِ المتربّصينَ بها.
فالحرفُ العربيّ الّذي ظلَّ صامدًا على مدى عهودٍ طويلةٍ من الزّمنِ، معَ ما رافقَهُ من تيَّاراتٍ استعماريّةٍ ضاغطةٍ سعتْ إلى طمسِ الهويّةِ اللسانيّة للأمّةِ نجدهُ اليومَ محاصرًا على طاولاتِ البحثِ الإلكترونيّ، ومستباحًا من قِبَلِ مستخدمي وسائطِ التّواصلِ الاجتماعيّ دونَ أدنى مسئوليّةٍ في خلقِ الإشكالاتِ اللغويّةِ، من مثلِ استبدالِ الحروفِ بأرقامٍ أصبحتْ علاماتٍ متداولةً، أو نحتِ الكلماتِ واختصارها، أو مزاوجةِ الحروفِ العربيّةِ بالحروفِ الانجليزيّة؛ لتنتجَ لغةٌ منصهرةٌ تسمّى في أوساطِ المتحدّثين اليومَ باللغةِ (العربيزيّة).
هذا بالإضافةِ إلى رصدِ كثيرٍ من الظّواهرِ الطَّارئةِ على استخدامِ اللغةِ باستخفافٍ عبرَ التّمرّدِ على قواعدِها النّحويّةِ والإملائيّة الرّاسخةِ الّتي وطّدَ أركانَها علماءُ العربيّةِ الأجلّاء، وهذا بحدِّ ذاتِهِ انفلاتٌ لغويٌّ سيؤدّيْ لا محالةَ إلى نشوءِ حالةٍ من الفوضى العارمةِ في الاستخدامِ اللّغويّ الّذي فاقَ بتقديري انتشارَ العامّيّةِ، إِذْ إنَّ شرائحَ المجتمعِ العامّيِّ تكتسبُ لغتَها اكتسابًا بريئًا، ثمَّ تعتادُ عليها، لكنَّها تدركُ إدرَاكًا واعيًا: أنَّ اللغةَ الأصليّةَ الأمّ هي: اللغةُ العربيّةُ الفصحى، وهي لغةُ الكتابةِ والتّخاطبِ والإبداعِ.
بينما تمتدُّ موجاتُ الاستخدامِ اللغويّ عبرَ مواقعِ التّواصلِ الاجتماعيّ إلى كلِّ البيوتِ والمدارسِ، والأماكنِ العامّةِ والخاصّةِ كظاهرةٍ جديدةٍ في التّطوّرِ اللغويِّ الحادثِ كصيحةٍ من صيحاتِ الحداثةِ؛ ليبدأَ النّشءُ بتعلّمِها بكلِّ رغبةٍ وطواعيةٍ؛ لمواكبةِ أقرانِهِ ممّنْ تملّكوا لغةً عصريّةً تتواءمُ معَ تيّاراتِ السّرعةِ والعبثيّةِ الإلكترونيّةِ، وتحقّقُ متطلّباتِ التّواصلِ القصيرِ الأمد، الخارجِ على كلِّ قيمِ مجتمعاتِنا الأصيلةِ.
فمنَ المعلومِ أنَّ مساحة التّوسّع في استخدامِ مواقعِ التّواصلِ الاجتماعيّ تزدادُ يومًا بعدَ يومٍ، وبصورةٍ هائلةٍ وسريعةٍ، ودونَ وجودِ رقابةٍ تحدُّ من خطرِ الاستخدامِ غير الآمنِ، خاصّةً عندَ غيرِ الرّاشدينَ والأطفالِ، ومنْ هم دونَ السّنِّ المؤهّلِ لولوجِ بوَّابةِ العالمِ الإلكترونيّ، واللغةُ العربيّةُ في سياقِ الامتدادِ العربيّ على صفحاتِ التّواصلِ الاجتماعيّ هي أداةُ التّفاعلِ الأولى، وهي منطلقُ الأصواتِ المغرّدة والهاشتاق(الوسم) والفاف(التدوينة) والايموجي(الرّموز التعبيريّة) والستوري(القصّة في تطبيق السناب تشات) والبلوك(حظر جهات التّواصل) والدايركت(المحادثة الخاصّة) والريتويت(إعادة التّغريد) والفورورد(إعادة التّوجيه) والمنشن(الرّد على المستخدم) والفولو(متابعة الحساب) والبايو(خانة النّبذة الشّخصيّة) والترند(المواضيع الأكثر تداولًا)، والكثير الكثير من المصطلحاتِ المتعارفِ عليها بينَ روّادِ مواقعِ التّواصلِ الاجتماعيّ.
وفي ظلّ هذا التّوغّل الإلكترونيّ عبر وسائلِ التّواصلِ الاجتماعيّ:(الفيس بوك، التويتر، الواتساب) ينزلقُ المستخدمون في منزلاقاتِها بقصدٍ أو دونَ قصدٍ أثناءَ استخدامهم للغةِ العربيّة كوسيلةٍ معبّرةٍ عن محادثاتِهم وتعليقاتِهم، ومنشوراتِهم المتتابعة، فقلّما تجدُ من المستخدمينَ من هو حريصٌ على تنقيةِ نصوصِه ومحادثاتِه ممّا يشوبُها من عوالقَ أو من أخطاء لغويّةٍ أو إملائيّةٍ أو تركيبيّة، فيظهرُ اللحنُ جليًّا ومتراكمًا للدّرجةِ الّتي تزكمُ أنوفَ المتذوّقينَ لجماليّاتِ اللّغةِ العربيّة الّتي وصَفَها عمرُ بن الخطّابِ رضي الله عنه بقولِهِ:
" تعلّموا العربيّةَ؛ فإنَّها تشبّبُ العقلَ، وتزيدُ في المروءةِ ".
فالعاميّة الّتي شكّلتْ سيلًا جارفًا من الاعتداءِ على قدسيّة اللغةِ العربيّة الفصحى لم يتجرّأْ أنصارُها أو المتحدّثونَ بها على اللغةِ العربيّة كما تجرّأ أنصارُ مواقعِ التّواصلِ الاجتماعيّ، إذْ وصلَ الحدُّ بهم إلى الاتّفاقِ بمحضِ التتبّعِ والتّقليدِ على إعدادِ قوالبِ جاهزة كاختصاراتٍ لتراكيبَ عربيةٍ، أذكرُ منها على سبيلِ المثالِ الدّارجِ اختصارَ تركيب (سأذهبُ وأعود) في قولهم: (برب)، واختصار عبارة (سأراكَ قريبًا) في قولهم: (سيس)، واختصار عبارة (سأضحك طويلًا) في قولهم: (ههههه) معَ مراعاة زيادة الهاءات إذا زادتْ الضحكاتُ والقهقهات!!؟، وما إلى ذلك من القوالبِ المختصرة المتعارفِ على معناها بينهم، دونَ أدنى فهمٍ لمحدّداتِ التّركيبِ اللّغويّ، وهذا الأمرُ يُقاسُ عليهِ أنّ اللغةَ العربيّة مع مرورِ الزّمنِ ستصبحُ في نظرِ أبنائِها مجرّدَةً من جوهرها، فهناكَ بدائلُ لألفاظِها إذا كانَ المقصدُ الأساسيّ منها مجرّدَ أداةٍ للتّواصلِ.
ويبقى الضَّررُ في استخدامِ اللغةِ العاميّةِ دونَ اللغةِ الفصحى أقلَّ من التّداخلِ مع اللغاتِ الأخرى، من خلالِ ما أصبحَ معمولًا بهِ في سياقِ مسمّياتٍ لا تمتُّ للغةِ بصلةٍ، مثل: (الفرانكو آرب، العربيزيّة، الأنجلو عربيّة)، الّتي تحوّلتْ من خلالِها اللغةُ العربيّةُ منْ لغةٍ صافيةِ المشاربِ إلى لغةٍ معكّرةٍ، ويعلوها كثيرٌ من الشّوائبِ، بينما اللغةُ الفصحى واللغةُ العامّيَّةَ لغتانِ من فصيلةٍ واحدةٍ، والفرقُ بينهما فرعيٌّ لا أساسيّ، فهو واضحٌ ومحدَّدٌ في آليّةِ اللفظِ، وصياغةِ الجملِ، والموقعِ الإعرابيّ للكلمة في سياقِ التّركيبِ اللغويِّ.
فهذه الممارسات في استخدام اللغة العربيّة عبر صفحات التّواصل الاجتماعيّ من الأخطارِ الّتي تحيقُ بها، فشيوعُ أساليبِ التّواصلِ الاجتماعيّ أخذتْ من حياةِ النّاسِ الوقتَ الطّويلَ، ودخلتْ في أدقِّ شؤونِ حياتِهم، عبرَ مغرياتِها المتنوّعةِ سهلةِ المنالِ، وهنا يظهرُ الوجهُ الشّديدُ القبحِ للتّقنياتِ الحديثةِ في التّواصلِ الّتي من المفترضِ أنْ تُساهمَ في ارتقاءِ اللّغةِ العربيّة، لا أنْ تكونَ نقمةً عليها، وجرثومةً سامّةً تتسلّلُ عبرَ بريقِها الحضاريّ والتّاريخيّ؛ ونفخًا من الشرِّ المحدّقِ في أصولِها وثوابتِها كلغةٍ باركَها اللّه، وتكفّلَ بحفظِها، وأمنَ سموّها على سائرِ اللغاتِ، لكنَّ أبناءَها اليومَ غافلونَ عنها، ومغيّبونَ عن دسائسِ المكرِ المغلّفةِ بثوبِ العصريّة والحداثةِ، الّتي تُحاكُ في أروقةِ الظّلامِ، وتُعدُّ في مطابخِ السّياسةِ العالميّة الّتي وضعتْ نصبَ عينيها أهدافًا مدروسةً بعنايةٍ لإضعافِ اللغةِ العربيّة، وبالمحصّلةِ إضعافِ الأمّةِ.
فمعَ الانفتاحِ على العولمةِ بأشكالِها المتعدّدةِ أصبحَ العالمُ قريةً كونيّةً صغيرةً على حدّ قولِ عالمِ الاتّصالِ الكنديّ:(مارشال ماكلوهان)، معَ ما رافقها (العولمة) من تطوّرٍ في الوسائلِ الإلكترونيّة للإعلام والاتّصالِ الّتي ساعدتْ في تقليصِ الفجوةِ الزّمنيّةِ والمكانيّةِ، وانكماشِ الكرةِ الأرضيّة للحدّ الّذي أُلْغيتْ معهُ مفاهيمُ المسافاتِ، فقدْ أصبحَ بمقدورِ أيِّ شخصٍ عبرَ الأنظمةِ الإلكترونيّةِ المتوفّرةِ الوصولِ إلى المعلوماتِ، والتّواصل معَ الآخرينَ في أيِّ وقتٍ شاءَ، وهذا التّطوّرِ اللافتُ هو مدعاةٌ الزيادةِ الفائقةِ والمستمرّةِ في أعدادِ مستخدمي شبكاتِ التّواصلِ الاجتماعيّ؛ حتّى أُشيدتْ لهذهِ الغايةِ مقاهيْ الانترنت ونواديهِ في جميعِ أنحاءِ العالمِ، ومعَ التّقدُّمِ الزّمنيّ تحوّلتْ المقاهيْ والنّواديْ إلى غرفٍ صغيرةٍ للدّردشةِ، ثمُّ إلى أيقوناتٍ صغيرةِ الحجمِ يستعرضُها المستخدمونَ على شاشاتِ هواتِفهم النّقَّالةِ المتطوّرةِ، لدرجةِ أنَّ ذواكرَها التّخزينيّةَ قدْ تفوّقتْ على الكثيرِ من أجهزةِ الحاسوبِ الثّابتةِ والمحمولةِ.
كما أنَّ هناكَ ظاهرةً جديرةً بالوقوفِ تشيعُ في أوساطِ مستخدمي شبكاتِ التّواصلِ الاجتماعيّ، وهي: استخدامُ لغةِ تخاطبٍ مكوّنةٍ من خليطٍ من الحروفِ العربيّةِ واللاتينيّةِ والانجليزيّةِ والفرنسيّةِ، والرّموزِ والرّسوماتِ والأرقامِ، وكلُّ ذلكَ تحتَ مسمّى (اللغةِ الانترنيتيّة)، وقدْ امتدّتْ هذه الظّاهرةُ لتصلَ إلى كافّةِ الأماكنِ، خاصّةً في الجامعاتِ والمعاهدِ والمدارسِ، وقدْ أشارَ كثيرٌ من الدّارسينَ والباحثينَ إلى هذهِ الظّاهرةِ المسمّاة (التّداخل اللغويّ)، وهيَ دخيلةٌ على اللغةِ العربيّةِ، وتؤثِّرُ في نظامِها اللغويّ الوضعيّ تأثيرًا سلبيًّا، فإذا ما شاعتْ في بيئةٍ، ولمْ تجدْ قوَّةً مكافئةً للوقوفِ في وجهها: انتشرتْ انتشارَ النّارِ في الهشيم، وهذا ما حدثَ بسرعةٍ وعشوائيّةٍ لدى السّوادِ الأعظمِ من مستخدمي شبكاتِ التّواصلِ الاجتماعيّ.
ومن جانبٍ آخرَ: برزتْ ظاهرةُ استبدالِ الحروفِ العربيّة بالأرقامِ أثناءَ كتابةِ الكلماتِ العربيّة باللغةِ الانجليزيّة، وقدْ لوحظَ هذا الملمحُ وشاعَ بينَ مستخدمي اللغةِ الانجليزية من العربِ والعجمِ في محادثاتهم، كاستبدالهم حرفَ الحاءِ بالرّقم (7) إذا ما كتبوا اسمَ محمّدٍ، ليكتبوه هكذا (mo7amad)، والسّببُ المباشرُ في مثلِ هذه الظّاهرةِ ما هو إلَّا خروجٌ فاضحٌ على اللغةِ العربيّة أوّلًا: باستبدالِها بلغةٍ أخرى ليستْ أرفعَ منها شأنًا، وثانيًا: من بابِ التّقليدِ الأعمى، ومسايرةِ المخطّطِ الغربيّ للقضاءِ على العربيّة في عقرِ دارِها تحتَ ما يسمّى بمخطّط (الفرانكو آرب).
أمّا شيوعُ الأخطاءِ النّحويّة والإملائيّة، فقد بلغَ السّيلُ فيها الزّبى، حتّى انتقلتْ عدوى الوقوعِ بها إلى أصحابِ الاختصاصِ، وحملة الشّهاداتِ العليا، بحجّةِ أنّ المقامَ ليسَ مقامَ احتفالٍ باللغةِ الغربيّة بقدرِ ما هو امتثالٌ لمتطلّباتِ التّفاعلِ السّريعِ، وإيصالِ (المسجاتِ) بأسرعِ الطّرقِ، معَ وجودِ حالاتٍ من التّثاقلِ في البحثِ عن الهمزاتِ وحركاتِ الضّبطِ وزخرفةِ الكلماتِ ما دامَ أنّ الرّسالةَ ستصلُ دونَ هذا العناءِ!!؟.
فلا يمكنُ القولُ: إنَّ مستخدمي شبكاتِ التّواصلِ الاجتماعيَّ قدْ نجحوا في إيجادِ لغةٍ جديدةٍ عبرَ عالمهم الافتراضيِّ، لغةٍ خارجةٍ على الأُطرِ والقواعدِ اللّغويّةِ الرّاسخةِ للغتنا العربيّةِ الأمّ؛ لأنَّ هذا الاعترافَ: نوعٌ من التّسليمِ بأحقيَّتهم في الخروجِ على لغتِهم الأصيلةِ، وتحويلِها إلى خليطٍ من الحروفِ والأرقامِ والرّموزِ والرّسوماتِ والاختزالاتِ، رغمَ أَنَّها تؤدّيْ رسالتَها، وتحقِّقُ متطلَّباتِ التّعبيرِ عن الذَّاتِ الإنسانيّةِ، إِذْ إِنَّ اللغةَ العربيّةَ من أقدمِ لغاتِ الأرضِ، وخزائِنُها ملأى بالمفرداتِ ومرادفاتِها الّتي أهَّلتْها لمواكبةِ الحداثةِ، فلا يعتريها النّقصُ لتحقيقِ أيِّ نشاطٍ اجتماعيٍّ تواصليٍّ مهما كانَ طابعُهُ وشكلُهُ، فلا يُقالُ اليومَ على ألسنةِ المنظّرينَ والمنادينَ بالانقسامِ اللغويّ: إنَّ لغتَنا قاصرةٌ عن مجاراةِ اللغاتِ الأخرى، والثَّقافاتِ المتنوّعةِ؛ ليكونَ هذا الاتّهامُ الموجَّهُ للغتنا العربيّةِ دافعًا للتّوسّلِ إلى لغاتٍ هابطةٍ لا ترتكزُ على قواعدَ، بلْ تعتمدُ العشوائيّةَ في توجيهِ النّظامِ اللغويّ الضَّعيفِ كتابةً ومشافهةً.
وممّا لا شكَّ فيهِ: أنَّ شبكاتِ التّواصلِ الاجتماعيّ قدْ أصبحتْ تشكّلُ خطرًا على اللغةِ العربيّة، فالرّواجُ للغةِ الإنترنيتيّة انتشرَ بشكلٍ واسعٍ، وفقَ الإحصاءاتِ الّتي قدّمها الباحثون، وذلكَ على حسابِ اللغةِ العربيّة الّتي باتتْ منسيَّةً، إلَّا لدى فئةٍ قليلةٍ من المهتمّينَ والمدافعينَ والمثقّفين الّذين يتداولونَها، ويعبّرون بها، ويثرونَ فيها المشهدَ الثّقافيَّ، والأكثر إدهاشًا وحزنًا: أنَّ هذهِ اللغةَ قدْ تسلّلتْ من الواقعِ الافتراضيّ إلى الواقعِ الحقيقيّ، بلْ إِنَّها أصبحتْ في نظرِ الكثيرين من مستلزماتِ التّواصلِ الاجتماعيّ؛ لسهولةِ استخدامِها وسرعةِ إنجازِها، والتّنازلُ عنها ليسَ بأسهلَ من التّنازلِ عن اللغةِ العربيّة الأصيلةِ، فاستخدامُها مبرَّرٌ ومباحٌ بكلِّ الأوجهِ والأشكالِ.
فهامشُ الحرِّيَّةِ المعطى لمرتادي صفحاتِ التّواصلِ الاجتماعيِّ جعلهم يقفزون عن كثيرٍ من الحواجزِ القيميّةِ الضَّابطةِ في استخدامِ اللغةِ العربيّة، للدرجةِ الّتي استباحوا فيها التّعدّي على قواعدها النَّاظمة؛ باستنساخِ لغةِ محادثةٍ أقربَ ما تكونُ إلى اللغةِ التِّجاريّةِ الّتي تتبدّلُ مصطلحاتُها وتراكيبُها يومًا بعدَ يومٍ حسبَ متطلّباتِ السّوقِ، فلا تستقرُّ على حالٍ، والمجالُ مفتوحٌ فيها للحشو والاستبدالِ والتَّمازجِ معَ اللغاتِ الأخرى، والانزياحِ بالألفاظِ إلى غيرِ معانيها، والتَّرويجِ للمبتذلِ من التَّراكيبِ الدَّخيلةِ، وتفريغِ المفرداتِ من مضامينِها الحقيقيّةِ، إذْ لا مكانَ للاستنادِ إلى مقولاتِ العلماءِ وآرائهمْ، ومراجعةِ القواعدِ والمسائلِ اللغويّةِ المتَّفقِ عليها، وتمحيصِ الأقوالِ الواردة في سياقِ النَّصِ قبلَ زجِّهِ في الصَّفحاتِ للمتلقِّيْ، ولا رادَّ من استباحةِ ساحةِ اللغةِ العربيّةِ بما لا حصرَ لهُ من المخالفاتِ الّتي لا يحتاجُ الأمرُ معها بعدَ ذلكَ إلى مصحِّحٍ أو مدقِّقٍ لغويٍّ؛ لتقودنا تلكَ الحملةُ على اللغةِ العربيّةِ في نهايةِ المطافِ إلى الاستخفافِ بها، ثمَّ وبالتَّدريجِ طمسِ الهويَّةِ للحرفِ العربيِّ، وإحداثِ حالةٍ من التّغريبِ بينَ اللغةِ العربيّةِ وأبنائها.
علم الأنساب الجيني ينسف الصهيونية! ماذا تبين من دراسة الحمض النووي لليهود والعرب؟



أبناؤنا وبرامج التواصل الاجتماعي
أبناؤنا وبرامج التواصل الاجتماعي
مراد باخريصة


الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

من المنن التي منّ الله سبحانه وتعالى بها علينا في هذا العصر:" نعمةالانترنت وما يحمله من تقنيات عالية وبرامج مفيدة، وما فيه من تسهيلات كبيرة خاصة في جانب الاتصالات والتواصل مع الآخرين"، وكل يوم يكتشف الإنسان أشياء حديثة وبرامج جديدة في هذا البحر الخضم الذي لا ساحل له حتى سميت الانترنت بالشبكة العنكبوتية والشبكة العالمية، فسبحان الذي علم الإنسان ما لم يعلم:﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾ [العلق: 1 - 5]، ويقول سبحانه وتعالى:﴿ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ﴾ [النساء: 113].
إن الواجب علينا يا عباد الله: أن نستغل هذه التقنية في نشرالخير والدعوة إلى الله، وتحبيب غير المسلمين في الإسلام، ونصحالمسلمين ودعوتهم إلى الالتزام بشرائع الإسلام، واستخدامه في التواصل مع الأهل والأقارب والأرحام، والتعرف على الآخرين من أجل الله تعارفاً يراد به وجه الله، لننال به محبة الله، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- ذكر من:" السبعة الذين يُظِلُّهُمُ اللهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ: رَجُلاَنِ تَحَابَّا فِي اللهِ، اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ".

لكن لو نظرنا إلى استخدامنا للإنترنت: لوجدنا إلا من رحم الله أن كثيراً منا يستغله في جانب الشر والفساد: أكثر مما يستغله في جانب الخير والصلاح، ويستخدمه في الهدم والعبث: أكثر مما يستخدمه في الأمور الجادة والمفيدة، وهذا لاشك أنه أمر خطير، فإن الإنترنت سلاح ذو حدين، وهو نعمة لمن استغله استغلالاً مفيداً، وفي نفس الوقت نقمة على من يستخدمه في اللهو والحرام.
وقد ذكر نبينا -صلى الله عليه وسلم- في حديث الإسراء والمعراج: أنه رأى رجلاً عنده لحم جميل طيب ولحم خبيث قبيح منتن، يأكل من اللحم الخبيث، ويترك اللحم الطيب، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-:" من هؤلاء ياجبريل"، فقال:" هؤلاء الذين يأتون الحرام ويتركون الحلال".

فهذا الذي يقف أمام هذه الشبكة العالمية، وهو يعلم أن فيها الخير والشر، والصلاح والفساد، والمواقع الطيبة والخبيثة، فيدخل على الخبيث المنتن، ويترك المواقع المفيدة الطيبة: لا شك أنه داخل في هؤلاء الذين يأتون الحرام ويتركون الحلال.
إن كثيراً من شبابنا وأبنائنا لديهم خبرة واسعة ومعرفة جيدة بالإنترنت، وكان من المفترض أن يستغلوها في العمل لصالح الإسلام، أو على الأقل يستغلونه لصالحهم شخصياً: كأن يبحث الشخص له عن عمل عبر الإنترنت، أو يتعلم البرامج المفيدة كبرامج التصميم والفوتوشوب ودورات البرمجة حتى يستفيد منها في تطوير نفسه وزيادة دخله.
لكن المصيبة: أن تجد أكثرهم مغرمين بالدردشة والشات والنمبز والماسنجر والوتسب وغيرها من برامج التواصل الاجتماعي، ويا ليتهم يستغلونه استغلالاً صحيحاً، وإنما تجد أكثرهم يستغلونها استغلالاً سيئاً في عقد العلاقات المحرمة والتعارف السيئ المبني على الشهوات والإثارات، وتشغلهم هذه البرامج عن أداء الواجبات سواء كانت الواجبات الدينية كالصلاة أو واجبات البيت وحقوق الأهل إضافة إلى ما يفعله بعضهم من تبادل لمقاطع الفيديو غير اللائقة والصور العاهرة، ونشر المعلومات المضللة، والشائعات الكاذبة، واستخدام الألفاظ البذيئة والكلمات الغربية، وهدر الأموال الطائلة خاصة لمن يستخدمون الإنترنت من المقاهي.

وترى كثيراً منهم يتشبع بما لم يعطى، ويدعي لنفسه أمام الآخرين: أنه كذا أو كذا، أو يضع لنفسه صورة شخص وسيم أو شاب جميل: ليوهم الآخرين أن هذه هي صورته الشخصية: إن لم يكن يدعي أنه أنثى، وهو في الحقيقة ذكر، ثم يقضي أوقاتاً طويلة ويهدر ساعات كثيرة أمام شاشة حاسوبه أو جواله مع هذا اللهو والعبث، وينسى قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعِ خِصَالٍ - وذكر منها - وَعَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ ".

المصيبة والطامة الكبرى التي بدأت تروج وتنتشر هي: أن هذه العلاقات لم تعد تقتصر على الجانب الالكتروني والتعارف من خلف الشاشات، وإنما بدأت هذه العلاقات تترجم على أرض الواقع، وتنتقل من الجانب الالكتروني الوهمي إلى الجانب الحقيقي الواقعي، وخاصة بين الذكور والإناث والأولاد والبنات، وهذا للأسف موجود وواقع ملموس، وقد وقعت حالات عديدة وخلوات محرمة ولقاءات سيئة بسبب هذه البرامج عندما استغلت استغلالاً خاطئاً في ظل غفلة وسهو من الآباء وأولياء الأمور.
يقوم الأب المسكين بشراء جوال مطور لابنه أو ابنته، وهو يظن أن هذا الجوال فيه ميزات بسيطة وأمور سهلة، ولا يعلم أن هناك برامج حديثة وتطبيقات متطورة يمكن إدخالها إلى هذا الجوال وتحميلها فيه: يستطيع المستخدم من خلالها أن يفعل ما يشاء، ويصل إلى حيث يشاء، ويتواصل مع من يريد، ومن خلال هذه البرامج يدخل هؤلاء الشباب والفتيات في بحار من المستنقعات الآسنة والأماكن الخبيثة.

إني أقول لكم وبكل صراحة: نحن اليوم نعيش في ظل ثورة إلكترونية هائلة وتطور تكنولوجي متقدم، ولا يستطيع الواحد منا أن يترك استخدام هذه البرامج وهذه التكنولوجيا أو يمنع أولاده منها، لكن الواجب والأهم هو: أن نحرص حرصاً كبيراً على متابعتهم، وننظر إلى ما يشاهدونه وينشرونه على صفحاتهم، بل الأولى أن تكون كلمات السر والشفرات التي يدخلون عبرها إلى هذه البرامج تكون بيد الآباء.
خاصة للأولاد الصغار والبنات والنساء، ليرى الأب ابنه أين وصل؟، ومن يتابع؟، ومع من يتراسل؟، وهل هو مستغل هذه التقنية في الخير أم في الشر؟.
أما أن يعطي أبناءه الصغار أو بناته أو نسائه جوالاً مطوراً فيه كل شيء، ثم يترك لهم الحبل على الغارب، ولا يسألهم عما يفعلون، ولا يشاهد ما ينشرون، ولا يعرف مع من يتواصلون، فهذا والله هو: الضياع الكبير والتفريط العظيم لهؤلاء الأولاد الذين هم أمانة في أعناقنا:﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ [الأحزاب: 72].

إن برامج التواصل الاجتماعي فتحت على أبنائنا وبناتنا وشبابنا وفتياتنا شروراً كبيرة وأخطاراً عظيمة، فكم من ولد كان من أفضل الأولاد وأحسن الطلاب، ثم انقلب على عقبيه، وتغيرت سلوكياته حتى مع أهله وأصحابه بسبب هذه البرامج التي يصبح ويمسي معها، فيعيش في عالم من الأوهام والأحلام في ذلك المجتمع الافتراضي والعالم الوهمي عالم الانترنت، ومع أولئك الأصدقاء الافتراضيين على الشاشة، وينسى نفسه وأهله ودراسته ومستقبله بسبب انشغاله المفرط بتلك البرامج.
وكم من فتاة غرهاشاب خبيث مجهول في البداية معروف في النهاية، يصرف عقلها بكلماته المعسولة، ووعودهالكاذبة وصداقتهالمزيفة، ويزيّن لها شروراً كثيرة، ويوهمها بأوهام مزيفة حتى اغتر بعضهن بتلك الوعود والأوهام!!؟.
وقد سجلت عشرات الحالات لفتيات هربن مع أصحابهن، وتركن أهلهن: أملاً في الخروج من البيت ومشاكله إلى تلك الحياة الموعودة التي يعدها بها!!؟.

فلنتقي الله في أبنائنا، ولنضع لهم خطوطاً عريضة يتعاملون بها مع هذه الشبكة العنكبوتية حتى نضبط الأمور، ونكون على قدر المسئولية تجاه أبنائنا وبناتنا، ولا نعطيهم الثقة المطلقة التي لا حدود لها، فإن الهلاك والفساد يأتي من جراء هذا التساهل والتفريط، يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ [التحريم: 6].
يقول نبينا -صلى الله عليه وسلم-:
" كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالْإِمَامُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَمَسْئُولٌ عَنْهُمْ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى مَالِ زَوْجِهَا، وَالْعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسْئُولٌ عَنْهُ، أَلَا فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ ".
شهادة الباكوليرا !
كيف سبقونا؟
شيئين اثنين لا ثالث لهما
التعليم و الصحة
فاذا كنت متعلما باتم معنى الكلمة يمكنك أن تفكر ان تصنع و تبدع..
و ان كلفك العطاء صحتك تجد طبيبا يعالجك لتكمل مسيرتك..

حين ذاك نكون قد تجاوزنا عتبة الباكوليرا!
الصبر
علمونا ان الصابر ينال.....
افهمونا ان للصبر مفتاح الفرج.....
لكنهم نسوا ان للصبر حدود ......
ملاذكرد .. الطريق إلى القسطنطينية


تعد معركة "ملاذكرد" من أيام المسلمين الخالدة، مثلها مثل بدر، واليرموك، والقادسية، وحطين، وعين جالوت، والزلاقة، وغيرها من المعارك الكبرى التي غيّرت وجه التاريخ، وأثّرت في مسيرته. وكان انتصار المسلمين في ملاذكرد نقطة فاصلة؛ حيث قضت على سيطرة دولة الروم على أكثر مناطق آسيا الصغرى وأضعفت قوتها، ولم تعد كما كانت من قبل شوكة في حلق المسلمين، حتى سقطت في النهاية على يد السلطان العثماني محمد الفاتح.



كما أنها مهدت للحروب الصليبية بعد ازدياد قوة السلاجقة المسلمين وعجز دولة الروم عن الوقوف في وجه الدولة الفتية، وترتب على ذلك أن الغرب الأوربي لم يعد يعتمد عليها في حراسة الباب الشرقي لأوربا ضد هجمات المسلمين، وبدأ يفكر هو في الغزو بنفسه، وأثمر ذلك عن الحملة الصليبية الأولى.


ألب أرسلان

تولى ألب أرسلان حكم دولة السلاجقة سنة (455 هـ/ 1063م) خلفًا لعمه طغرل بك الذي أسس الدولة ومدَّ سلطانها تحت بصره حتى غدت أكبر قوة في العالم الإسلامي، وقضى ألب أرسلان السنوات الأولى من حكمه في المحافظة على ممتلكات دولته وتوسيع رقعتها، وتأمين حدودها من غارات الروم.

ثم تطلع إلى ضم المناطق المسيحية المجاورة لدولته؛ فاتجه صوب الغرب لفتح بلاد الأرمن وجورجيا والأجزاء المجاورة لها من بلاد الروم، وكان أهل هذه البلاد يكثرون من الإغارة على إقليم أذربيجان حتى صاروا مصدر إزعاج وقلق لسكانه، وهو ما دفع بالسلطان السلجوقي إلى ضرورة كبح جماح هؤلاء الغزاة.

وأزعج ذلك إمبراطور الروم رومانوس ديوجينس، وأدرك أن التوسع السلجوقي لا يقف عند هذا الحد، وأن خطره سيهدد بلاده، فعزم على تحويل أنظار السلاجقة عن بلاده بالإغارة على بلاد الشام الشمالية، فهاجم مدينة "منبج" ونهبها وقتل أهلها، غير أن ذلك لم يكن كافيًا لدفع خطر السلاجقة على بلاده، فأعد جيشًا كبيرًا لضرب السلاجقة، وتحجيم قوتها وإضعافها.


غرور القوة

جهَّز الإمبراطور البيزنطي رومانوس جيشًا ضخمًا يتكون من مائتي ألف مقاتل من الروم والفرنجة والروس والبلغاريين واليونانيين والفرنسيين وغيرهم، وتحرك بهم من القسطنطينية عاصمة دولته، ممنِّيًا نفسه بنصر حاسم يقضي على خطر السلاجقة، فقد أطمعته قواته الغفيرة وعتاده الكثيف بأن النصر آتٍ لا ريب فيه، واتجه إلى ملاذكرد حيث يعسكر الجيش السلجوقي.

أدرك ألب أرسلان حرج موقفه؛ فهو أمام جيش بالغ الضخامة كثير العتاد، في حين أن قواته لا تتجاوز أربعين ألفًا، فبادر بالهجوم على مقدمة جيش الروم، ونجح في تحقيق نصر خاطف يحقق له التفاوض العادل مع إمبراطور الروم؛ لأنه كان يدرك صعوبة أن يدخل معركة ضد جيش الروم؛ فقواته الصغيرة لا قبل لها بمواجهة غير مضمونة العواقب، فأرسل إلى الإمبراطور مبعوثًا من قبله ليعرض عليه الصلح والهدنة؛ فأساء الإمبراطور استقبال المبعوث ورفض عرض السلطان، وأشاح بوجهه في غطرسة وكبرياء مطمئنًا من الفوز والظفر، ولم ينتظر سماع كلام مبعوث السلطان، وطالبه أن يبلغه بأن الصلح لن يتم إلا في مدينة الري عاصمة السلاجقة.


الاستعداد للقاء

أيقن السلطان ألاَّ مفر من القتال بعد أن فشل الصلح والمهادنة في دفع شبح الحرب؛ فعمد إلى جنوده يشعل في نفوسهم روح الجهاد وحب الاستشهاد، وأوقد في قلوبهم جذوة الصبر والثبات، ووقف فقيه السلطان وإمامه أبو نصر محمد بن عبد الملك البخاري يقول للسلطان مقوِّيًا من عزمه: إنك تقاتل عن دينٍ وعد الله بنصره وإظهاره على سائر الأديان، وأرجو أن يكون الله قد كتب باسمك هذا الفتح، فالقِهم يوم الجمعة بعد الزوال، في الساعة التي يكون الخطباء على المنابر، فإنهم يدعون للمجاهدين بالنصر، والدعاء مقرون بالإجابة.

وحين دانت ساعة اللقاء في (آخر ذي القعدة 463 هـ/ أغسطس 1071م) صلّى بهم الإمام أبو نصر البخاري، وبكى السلطان، فبكى الناس لبكائه، ودعا ودعوا معه، ولبس البياض وتحنط، وقال: إن قتلت فهذا كفني.


ساعة اللقاء في ملاذكرد

أحسن السلطان ألب أرسلان خطة المعركة، وأوقد الحماسة والحمية في نفوس جنوده، حتى إذا بدأت المعركة أقدموا كالأسود الضواري تفتك بما يقابلها، وهاجموا أعداءهم في جرأة وشجاعة، وأمعنوا فيهم قتلاً وتجريحًا، وما هي إلا ساعة من نهار حتى تحقق النصر، وانقشع غبار المعركة عن جثث الروم تملأ ساحة القتال.

ووقع الإمبراطور البيزنطي أسيرًا في أيدي السلاجقة، وسيق إلى معسكر السلطان ألب أرسلان الذي قال له: ما عزمت أن تفعل بي إن أسرتني؟ فقال: أفعل القبيح. فقال له السلطان: فما تظن أنني أفعل بك؟ قال: إما أن تقتلني وإما أن تشهر بي في بلاد الشام، والأخرى بعيدة وهي العفو وقبول الأموال واصطناعي نائبًا عنك. فقال السلطان: ما عزمت على غير هذا.


إطلاق سراح الإمبراطور البيزنطي

أطلق السلطان ألب أرسلان سراح الإمبراطور البيزنطي بعد أن تعهد بدفع فدية كبيرة قدرها مليون ونصف دينار، وأن يطلق كل أسير مسلم في أرض الروم، وأن تعقد معاهدة صلح مدتها خمسون عامًا، يلتزم الروم خلالها بدفع الجزية السنوية، وأن يعترف الروم بسيطرة السلاجقة على المناطق التي فتحوها من بلادهم، وأن يتعهدوا بعدم الاعتداء على ممتلكات السلاجقة.

ثم أعاد السلطان غريمه وأسيره الإمبراطور البيزنطي إلى بلاده، وخلع عليه خلعة جليلة، وخصص له سرادقًا كبيرًا، وأعطاه قدرًا كبيرًا من المال لينفق منه في سفره، ثم أفرج عن عدد من ضباطه ليقوموا بخدمته، وأمر عددًا من رجاله بصحبته حتى يصل إلى دياره سالمًا.

ولم تكد تصل أخبار الهزيمة إلى القسطنطينية حتى أزال رعاياه "اسمه من سجلات الملك"، وقالوا: إنه سقط من عداد الملوك، وعُيِِّن ميخائيل السابع إمبراطورًا؛ فألقى القبض على رومانوس الرابع الإمبراطور السابق، وسمل عينيه.


نتائج معركة ملاذكرد

بعد انتصار المسلمين في هذه المعركة تغيَّرت صورة الحياة والحضارة في هذه المنطقة؛ فاصطبغت بالصبغة الإسلامية بعد انحسار النفوذ البيزنطي تدريجيًّا عن هذه المنطقة، ودخول سكانها في الإسلام، والتزامهم به في حياتهم وسلوكهم.

وواصل الأتراك السلاجقة غزوهم لمناطق أخرى بعد ملاذكرد، حتى توغلوا في قلب آسيا الصغرى، ففتحوا قونية وآق، ووصلوا إلى كوتاهية، وأسسوا فرعًا لدولة السلاجقة في هذه المنطقة عرف باسم سلاجقة الروم، ظل حكامه يتناوبون الحكم أكثر من قرنين من الزمان بعد انتصار السلاجقة في ملاذكرد، وأصبحت هذه المنطقة جزءًا من بلاد المسلمين إلى يومنا هذا.

وكان من ثمار دخول هذه المنطقة في حوزة السلاجقة انتشار اللغتين العربية والفارسية، وهو ما كان له أثره في مظاهر الحضارة منذ ذلك الوقت حتى يومنا هذا، غير أن هزيمة الروم في موقعة ملاذكرد جعلتهم ينصرفون عن هذا الجزء من آسيا الصغرى، ثم عجزوا عن الاحتفاظ ببقية الأجزاء الأخرى أمام غزوات المسلمين الأتراك من السلاجقة والعثمانيين، وقد توالت هذه الغزوات في القرون الثلاثة التالية لموقعة ملاذكرد، وانتهت بالإطاحة بدولة الروم، والاستيلاء على القسطنطينية عاصمتها، واتخاذها عاصمة للدولة العثمانية، وتسميتها بإسلامبول أو إستانبول.

هوامش ومصادر:
* ابن الأثير: الكامل في التاريخ - دار صادر - بيروت.
* حسن إبراهيم حسن: تاريخ الإسلام الديني والسياسي والثقافي - دار الجيل - بيروت - 1991م.
* عبد النعيم محمد حسنين: إيران والعراق في العصر السلجوقي - دار الكتب الإسلامية - القاهرة - (1402هـ/ 1982م).
* عصام عبد الرءوف الفقي: الدول الإسلامية المستقلة في الشرق - دار الفكر العربي - القاهرة - 1987م.
- أحمد تمام .
يمنع منعًا باتًّا: أطفالنا والشاشات
يمنع منعًا باتًّا: أطفالنا والشاشات
د. غنية عبد الرحمن النحلاوي


الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:


مقدمة:
لو قيل لك: يُمنَع منعًا باتًّا تجاوُز القانون في تعرُّض طفلك للأجهزة الذكية والرائي: التلفاز، تحت طائلة العقوبة، وأقلُّها دفع الضريبة (دولار مثلًا عن كل دقيقة زائدة يجلسُها الطفل إلى الشاشات) - لانصعْتَ بلا أدنى نقاش! (وربما أعلنت وأسررت!)، ولكن عندما نعوِّل على توضيح الأضرار والمخاطر بشكل علمي مثبت، واستنهاض المسؤولية الوالدية والمشاعر الإنسانية، ثم عندما تتعالى إنذارات المختصِّين من الخسائر، تأتي النتائج هزيلةً مع الأسف، ومعظم الأهل لا يمتنعون عن تعريض طفلهم الغضِّ لهذا البلاء لساعات طويلة، فيُصاب بالاعتياد (ولدرجة الإدمان حسب الدراسات العلمية)، والأهل هم مَنْ عرَّفَه على تلك الأجهزة ابتداءً قبل أن يريد أو لا يريد! (ولو كان يدري ما المحاورة اشتكى)!.

أهمية وعالمية الموضوع:
إن التوعية بشأن سهر الأطفال، وتعريضهم الخاطئ والمبكر للرائي: التلفاز، والأجهزة الذكية التي قد تُولِّد الغباء - يحتاج إلى مقالات!، وأكثرنا لغبش مفهوم التربية أو لاختلال سُلَّم الأولويَّات، أو فَقْد الصبر على الطفل أو... ينسى الحقيقة التالية:
أنت لا تُسلم الجهاز للطفل، لكنك في واقع الأمر تُسلِّم طفلَكَ للجهاز "الذكي"، والذي ينشط ذكاؤه هنا لغفلتنا -حتى لا أقول غباؤنا - مسببًا إيذاء الطفل بدنيًّا ونفسيًّا ورُوحيًّا... وسنترك الأذى البدني لمقال آخر، ونتناول بإيجاز الضَّرَر الفكري النفسي الذي يتطوَّر بشكل خلسي، فالتأثير تدريجي ونتائجه تراكمية!، والمسؤولية يشترك فيها كلُّ إنسان يرعى طفلًا... لا سيَّما الأهل!، وهو ما نبَّهَت له الأبحاث العالمية مِرارًا ونتغافل عنه، ومن أوسعها دراسةٌ: وجَدَتْ أن الأطفال الأمريكيِّين يُنفقون في المتوسط ثماني ساعات يوميًّا مع برامج الرائي "الميديا" ومواقع النت على الحواسيب والآي باد والهواتف الذكية، ومع ألعاب الفيديو الإلكترونية media—TV, computers ,smart- phones iPods, video games؛ وهو ما يُعادل عشر أضعاف فترة بقائهم مع أبويهم؛ وفي عام (2005) تم وصف وتصنيف اضطراب نفسي واجتماعي جديد باسم [العوز للطبيعة: Nature deficit disorder]، وملخَّصُه: أن الأطفال الذين يمضون وقتًا أقل خارج الأبواب والجُدران، ووقتًا أطول مع الميديا الإلكترونية - يُعانون من حجم ضخْم من المشاكل السلوكية مع شبح تحوُّلها لأمراض، وبرز رعب اضطرابات التواصُل كالتوحُّد، (وسُمِّي حديثًا التوحُّد الافتراضي)!.
كل تلك الأمور والمزيد اقتضَت توصيات مُشدَّدة وإجراءات صارمة، أحدها: المنع الباتُّ لوجود تلك الأجهزة بمتناول الأطفال، وهو ما يستمرُّ عكسُه على أرض الواقع رغم التوصية[1]!

علاقة الفطرة السليمة والنمو المعرفي السلوكي بقوانين التعامل مع البثِّ الإلكتروني:
وأبدأ بتلخيص مراحل الطفولة الممتدة تطوريًّا وبيولوجيًّا بين الولادة والنُّضْج، وهي تتوزَّع على ثلاث فترات:
1- الطفولة المبكرة: ولها ثلاث مراحل: سن الرضاعة حتى السنتين/ الدارجون حتى الثالثة/ ما قبل المدرسة حتى السابعة.
2- الطفولة المتوسطة: وتُغطِّي سِنَّ المدرسة: منذ الـ(7-8) سنوات وحتى بداية البلوغ.
3- الطفولة المتأخِّرة، المراهقة: منذ بدء البلوغ حتى النُّضْج، حين يصبح المراهق راشدًا ومسؤولًا: وهذه النقطة النهائية لفترة الطفولة بالكامل تختلف باختلاف الثقافات، لتتراوح ما بين السادسة عشرة إلى الحادية والعشرين، لكن الثامنة عشرة هو العمر الشائع لانتهاء الطفولة، والمعتمد قانونيًّا من المنظمات الدولية.

أ- الطفولة المبكرة: وهي أهم فترة؛ لذا سنُركِّز عليها، وغالبًا يتمُّ دَمْجُ المرحلة الثانية والثالثة منها، وهو ما سنعتمده:
1) من الولادة وحتى نهاية السنة الثانية من العمر: التعرُّض هنا لتلك الأجهزة شديد الخطورة فكريًّا وجسميًّا؛ لذلك المنع باتٌّ قاطع، والقانون أنه يمنع منعًا مطلقًا بعمر سنتين وما دون: تعريض الطفل لأي من الأجهزة الذكية النقالة (موبيل-آي باد..)، ويحظر وجودها في غرف الأطفال، هي والتلفزيون الذي يجب منعهم من مشاهدته؛ وهذا القانون العام، وإن أقرَّتْه الجهات العلمية المعتمدة؛ مثل: الأكاديمية الأمريكية لطب الطفل - فإن تطبيقه منوط بالأهل، والصادم: انتشار التجاوزات رغم المنع البات!، ومثلًا عام ٢٠١٥ وجد أن (٥٨٪) من الأطفال دون سن الثانية في فرنسا استعملوا الكمبيوتر اللَّوحي أو الهاتف النقَّال!، وفي منطقتنا يشيع تعرُّض الأطفال لها منذ الشهر الخامس أو السادس من العمر، وأكثرهم يمسكها عابثًا مستكشفًا بعمر سنة!.
ويتراوح سلوك الأهل المخالفين بين المداهنة (ظاهريًّا يسايروننا) إلى العَلَن واللامبالاة لأسباب أهمها (وَفْقًا للنقاشات):
أن تلك الأضرار نظرية، لكن عندما تبدو لهم واقعًا بعد سنِّ الثانية تبدأ محاولاتهم المتأخِّرة لمنعهم عنها.
أن الطفل بنظر الأُمِّ والأب - وبالذات في تلك المرحلة - ملك لهما، والطبيب أو الجد أو المربي "لن يخاف عليه أكثر منا"!، بينما الصحيح أنَّ الابن أمانة مستودعة من خالقه، وليس ملكًا لهما، وتربيته ورعايته جسمًا ورُوحًا هي من مفردات الأمانة وتكاليفها[2].
وأن الهمَّ الأوحد - بالنسبة لأكثرهم - أكل الطفل وشربه ونومه وعلاجه!، ثم كل ما يمكن إلهاؤه به وإسكاته، فلا تثريب عليهم!، بينما هي المرحلة الجوهرية للتواصل ولبناء الفكر والنفس في جوٍّ من سلامة الرُّوح والفطرة، ذلك أن هذه الفترة من العمر هي التي تتنفَّس وتتجلَّى خلالها الفطرة السليمة المرتبطة بنفخة الرُّوح، والتي يُولَد طفلُكَ عليها[3]، ويتمُّ البناء التربوي وَفْقها ماديًّا ومعنويًّا، مستندًا إلى المؤثِّرات والخبرات البيئية الصالحة المتَّسِقة معها، وهذا يتحقَّق على أكمل وَجْه في التربية الإسلامية عندما يترعرع الطفل بين "الناس" الذين قال فيهم الله تعالى:﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ﴾ [الروم: 30]، وهم الذين حافظوا على تلك الفطرة!، وهي أهم فترة للنماء المعرفي، فطفلك خلالها يشقُّ طريقه بأثبت خُطًى، ستؤثِّر في كل مراحل العمر التالية!، ويكفي أن تعلم أن دماغَه ينمو أول عامين بتسارُع أعظمي يُعادل أو يفوق العشرين سنة التي يستكمل فيها الدماغ نُضْجَه!، وهذا النمو الأعظمي لا يترجم لسلوك سويٍّ دون التفاعُل والتواصُل بينكم وبينه!، لذلك أعظم رعاية فكرية وروحية مباشرة يجب أن تُقدَّم أوَّلَ عامين، ويقوم الطفل خلال هذه المرحلة حسب علم النفس التربوي "بجمع وتركيب بدئي للمعارف المقدمة له"، والأهم أنه يقوم بهذا: بما وهبه الله تعالى من قدرات؛ (مثل: الانتباه، والإدراك، والتذكر)، منقوشة في شفرته الوراثية: العامة كإنسان، والخاصة كمولود لأسرة معينة؛ ثم هو يحقِّق تلك العمليات المعرفية، ويستخدم مقدِّماتها ونتائجها بما علَّمه الذي علَّم الإنسان ما لم يعلم عزَّ وجلَّ - من أساليب أهمها: الملاحظة/ تكوين الخبرات (التجربة)/ وعلى رأسها التواصُل مع الآخرين، والذي ثبت أنه يجب أن يكون مع كائنات حية!، وليس أجهزة على الإطلاق!، وبالدرجة الأولى مع الأهل الذين عليهم مسؤولية تطوير تلك القدرات، ومساعدة الطفل في بناء الخبرات، وهذا يُفسِّر أن نسبة عالية من الأطفال بمراكز ذوي الحاجات الخاصة لديهم "اضطرابات تواصُل"، سببها الجلوس الطويل إلى الشاشات لبرامج مضمونها قد يكون جيدًا، فالفكرة ليست بالمضمون فقط، بل بمدة وعُمر التعرُّض الذي لم يعد غريبًا أن يبدأ دون السنة من العمر رغم النهي!، مما يُحمِّلنا المسؤولية كاملةً عن شحِّ التفاعُل الفكري والعاطفي والنتائج المستقبلية!.
ومن خصوصيات تلك الفترة:
أن الطفل بين مطلع الشهر الخامس ونهاية الشهر الثامن، يبدأ بتوقع نتائج الأشياء كما يبدأ بالاهتمام بموضوعات العالم الخارجي واختزان الخبرات، وهي بدايات قد يُطوِّرها الأبناء بسرعة مفاجئة.
وفي الشهر التاسع من العمر: يربط الطفل تعبيرات الوجه عند مَنْ يراهم كالحزن والسرور والخوف، مع بعض المؤثرات والأعمال، وهو ينفعل بدوره بمشاعر الخوف والغضب، ويبدأ بالتقليد في هذا العمر.
وبين بداية الشهر التاسع إلى نهاية الشهر الثالث عشر يُميِّز الأطفال بين الوسائل والغايات، وهذا التمييز البدئي، وذلك التقليد الطفولي العفوي يُحمِّل المربِّين مسؤولية مراقبة وانتقاء ما يتعرَّض له الطفل من المؤثرات شكلًا ومضمونًا، سواء منها ما يصدُر عنهم أنفسهم، أو مقذوفات الميديا الإلكترونية الساقطة على ساحات عقولهم وأرواحهم.
ومنذ مطلع الشهر الرابع عشر إلى بداية الثامن عشر، يمارس الطفل التجريب والاكتشاف (فيُوصَف خطأ بالفضولي)، وهو يبرع - لدهشتنا - في تنويع وتعديل سلوكه حسب المعطيات: لذلك يجب التنبُّه لهذه المعطيات!.
وتبرز هنا أهمية "القدوة" و"التقليد" في التربية والتعليم المبكرين، وهو ما يُسمِّيه علماء التربية الإسلامية: "التربية بالقدوة"، ويجعلون "التلقين" ثالثهما في عمر الثالثة.

يتبع إن شاء الله.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق