الخميس، 1 يونيو 2017

•• ما مـعـنـى مـقـولـة « المُـعـاصَـرة حِـجَـاب » ؟


« المُعَـاصَـرَةُ حِـجَـابٌ »
ــ بقـلم الشيخ : عـلي جمعـة ــ


مما من الله به علي المسلمين أن أبدعوا‏(‏ علم التوثيق‏)‏ علي غير مثال سابق‏,‏ فلم يأخذوه من أمة خلت‏,‏ ولم يقلدوا أحدا من الناس فكان من العلوم التي وضعوها وكملت غاية الكمال‏,‏ وعلم التوثيق مثله في ذلك مثل‏(‏ علم الفهم‏)‏ أو ما يسمي‏(‏ بأصول الفقه‏),‏ فإنه علم بديع نشأ من حضارة المسلمين‏,‏ وهذان العلمان يحتاجهما العالم الذي يتمسك بالمنهج العلمي فيوثق مصادره ويتأكد من معلوماته حتي لا يقع في عقلية الخرافة ولا في حد الانطباع التي لا ضابط لها ولا رابط‏.‏

‏1-‏ ومن علوم التوثيق عند المسلمين‏(‏ علم القراءات القرآنية‏)(‏ وعلم رواية الحديث‏)‏ الذي تولد عنه‏(‏ علم الجرح والتعديل‏)‏ والذي يهتم بالبحث في أحوال الرواة ومدي ضبطهم ومدي اتفاقهم مع الأصول المروية ومدي اختلافهم في ذلك‏,‏ وتولد منه قواعد كثيرة من ألطفها وأرقها هذه القاعدة الفريدة التي تدل علي عمق في الفهم ورقة في الشعور واعتذار للآخرين وعدم التسرع في إصدار الأحكام العشوائية والعدل حتي مع المخالف وإن شئت فقل خاصة مع المخالف كما قال تعالي‏:(‏ يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم علي ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوي‏)[‏ المائدة‏:8]‏ وهي قاعدة‏(‏ المعاصرة حجاب‏).‏

‏2-‏ ومعني هذه القاعدة أن المعاصرة بين اثنين لا تتيح لكل منهما أن يعرف الآخر كما ينبغي‏;‏ وذلك لأن الصورة الذهنية التي تتكون عند كل واحد منهما عن الآخر تكون ناقصة‏,‏ فقد يكمل الشخص كلامه الذي حمل علي غير مراده‏,‏ وقد يغير رأيه الذي ذهب إليه بل قد يغير مشربه أو مذهبه بالكلية‏,‏ وقد يتحول المرء من محب إلي كاره ومن كاره إلي محب وهذا مصداقا لقوله تعالي‏:(‏ واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون‏),‏ الأنفال‏:24]‏ ولقوله صلي الله عليه وسلم‏:(‏ القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبهما كيف يشاء‏)[‏ أحمد والترمذي‏].‏

وعلي ذلك فإن الاختلاف الناشئ بين اثنين من قبل الرأي هو اختلاف نسبي قد يتغير والموقف الذي حمل الشخص علي القدح في زميله قابل للتبدل والانتهاء‏.‏

وهذه قاعدة قررها جمهور السلف رضوان الله عليهم يقول ابن عباس رضي الله عنه‏:(‏ خذوا العلم حيث وجدتم ولا تقبلوا قول الفقهاء بعضهم علي بعض فإنهم يتغايرونتغاير التيوس في الزريبة‏[‏ فيض القدير‏164/4]‏

وقال مالك بن دينار‏(‏ رحمه الله‏):(‏ يؤخذ بقول العلماء والقراء في كل شيء إلا قول بعضهم في بعض فإنهم أشد تحاسدا من التيوس‏).‏

وقال الإمام الذهبي‏(‏ رحمه الله‏):‏ كلام الأقران لا يعبأ به‏,‏ لا سيما إذا لاح لك أنه لعداوة أو لمذهب أو لحسد‏.‏ وما ينجو منه إلا من عصمه الله‏.‏ وما علمت أن عصرا من الأعصار سلم أهله من ذلك سوي الأنبياء والصديقين‏,‏ ولو شئت لسردت من ذلك كراريس‏.‏

‏3-‏ ومن هذه القاعدة تولدت قاعدة أخري تقيدها وتنظمها وتفسرها وهي‏[‏ لا يقبل كلام الأقران بعضهم في بعض‏]‏ وهذا معني المعاصرة حجاب فهي لا تنفي قبول الجرح والتعديل من أهله بل تتكلم عما إذا تكلم أحدهم في أخيه وقرينه مخالفا لباقي الناس الذين مدحوا وعدلوا وأقروا بفضل هذا الإنسان‏,‏ فإذا جاء عظيم من الفضلاء وقدح هذا المزكي المعدل فإنه لا يقبل منه ذلك حيث لا يقبل جرح القرين بقرينه بهذه الصفة‏,‏ وعللوا ذلك وبينوا سببه بأن المعاصرة حجاب‏.‏

‏4-‏ إذن يمكن قبول جماعة كثيرة من أهل الاختصاص تجرح إنسانا وترفضه ولكن المعاصرة حجاب بين الأقران وليس مطلق العصر يخفي حقائق الأشياء والأشخاص‏,‏ بل العصر حجاب بين القرين وأخيه من نفس مستواه يحجب عنه عدله ويؤل له الأمر حتي يقدحه مبررا ذلك لنفسه أولا بأن فيه هذه الأخطاء التي يجب إنكارها‏.‏

‏5-‏ ولقد حدث في التاريخ الإسلامي تنابذ بين كبار علماء الاسلام‏:(‏ أبو نعيم الأصبهاني‏(‏ توفي‏436‏ هـ‏)‏وابن مندة‏(‏ توفي‏511‏ هـ‏)‏ حتي قال الحافظ الذهبي عما دار بينهما‏:(‏ وكلام ابن مندة في أبي نعيم فظيع‏,‏ لا أحب حكايته‏,‏ ولا أقبل قول كـل منهمـا في الآخـر‏...‏ كلام الأقـران بعضهم في بعض لا يـعبأ به‏,‏ لا سيما إذا لاح لك أنه لعداوة أو لمذهب أو لحسد‏)[‏ ميزان الاعتدال‏],(‏ والمغيرة والسبعي‏(‏ توفي‏129‏ هـ‏)‏ والأعمش‏(‏ توفي‏148‏ هـ‏)‏ فقد روي جرير عن مغـيرة أنه قال‏:(‏ ما أفسد حديث أهل الكوفة غير أبي إسحاق والأعمش‏).‏ قال الذهـبي‏:(‏ لا يسـمع قول الأقران بعضـهم في بعض‏)[‏ سير أعلام النبلاء‏],‏ وأحمد‏(‏توفي‏241‏ هـ‏)‏ وهشام بن عمار‏(‏ توفي‏245‏ هـ‏)‏ فقد قال أبو بكر المروزي‏:(‏ ذكر أحمد بن حنبل هشام بن عمار فقال‏:‏ طياش خفيف‏).‏

ومن ذلك ما كان بين‏(‏ الفلاس توفي‏114‏ هـ‏)‏ والسمين توفي‏235‏ هـ‏)‏ حيث ذكر أبو حفص الفلاس‏,‏ محمـد بن حاتم البغدادي السمين ـ من رجال مسلم وأبي داود ـ فقال‏:(‏ ليس بشيء‏).‏ فتعقبه الذهبي قائلا‏:(‏ هذا من كلام الأقران‏,‏ الذي لا يسمع‏).‏ ومنه ما كان بين‏(‏ بين عبد المغيث بن زهير‏(‏ توفي‏583‏هـ‏)‏ وابن أبي الفرج الجوزي‏597‏هـ‏)‏ وقد وقعت العداوة والفتـنة الشـديدة بينهما‏,‏ وكلاهما حافظان فقيهان حنبليان‏...‏ كان سببها اللعن علي يزيد بن معاوية‏,‏ كان عبـد المغيث يمنع من لعنه‏,‏ وكتب في ذلك كتابا وأسمعه للناس‏,‏ فكتب ابن الجوزي في الرد عليه كتابا سماه الرد علي المتعصب العنيد المانع من ذم يزيد‏...‏ ثم تلا ذلك مسائل أخري‏,‏ وقد مات عبـد المغيث وهما متهاجران‏.‏ ومنه ما كان بين‏(‏ مطين توفي‏297‏ هـ وابن أبي شيبة توفي‏235‏ هـ‏)‏ فقد ذكر الحافظ ابن حجر بترجمة محمـد بن عبـدالله بن سليمان الحضرمي الملقب بـ‏:(‏ مطين‏)‏ حط الحافظ محمـد بن عثمان بن أبي شيبة عليه‏,‏ وحط مطين علي ابن أبي شيبة‏,‏ وأن أمرهما آل إلي القطيعة‏.‏ فقال ابن حجر‏:(‏ ولا نعتد ـ بحمد الله ـ بكثير من كلام الأقران بعضهم في بعـض‏)[‏ لسان الميزان‏].‏

قال الذهبي‏:(‏ كلام الأقران بعضهم في بعض يحتمل‏,‏ وطيه أولي من بثه‏)‏ وعقد له ابن عبدالبر في جامع بيان العلم بابا خاصا استوفي الكلام فيه علي ذلك‏;‏ ولذلك لم يلتفت أهل الجرح إلي من تكلم فيه بسبب المعاصرة ـ كما يعلم ذلك من كتب الرجال ـ ولو عملوا بمقتضاه لما بقي في يدهم راو واحد يحتج به

‏6-‏ فالمعاصرة تجعلنا أكثر تأنيا في قبول الآراء وفي نفس الوقت تجعلنا أكثر مقاومة لأنفسنا في اتهام الأقران والآخرين‏(‏ إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربي وينهي عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون‏)[‏ النحل‏:90]‏





* * * * * * *


•• ما مـعـنـى مـقـولـة « المُـعـاصَـرة حِـجَـاب » ؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق