السبت، 31 أغسطس 2013

الواقع العلماني المعاصر . مقالات امرؤ البحر محمد العريان.

فصل الدين عن الدولة , أساس علماني قديم جداً , تجلى بقوة عن طريق مبادىء الثورة الفرنسية , ثم سريعاً ما انتشرت, لتكون مهيمنة على التنظيم القانوني العالمي الحالي , فمن خلال القيم الثلاثة للثورة الفرنسية , الإخاء والعدالة والمساوة , تم إعادة تعريف هذه القيم يما يناسب متطلبات النزعة العلمانية في التخلص من دور المؤسسات الدينية التي أجبرت السلطة الزمنية (الدولة) على أن تكون وسيلة لتحقيق أهداف رجال الدين , , وإكساب هذه الأهداف قداسة دينية, بغض النظرعن ما إذا كانت هذه الأهداف توافق الدين أم لا. فكانت النتيجة أن تحركت العناصر العلمانية الكامنة من دورها الهامشي في المجتمع إلى دور مركزي في قلب الدولة , وفي المقابل كان تهميش الإرادة الدينية . مما نتج عنه مرحلة بدائية من العلمانية (رغم شراسة ظهورها) تتسم بما يُعرف بحرية الإعتقاد , مقابل تنازل السلطة الدينية الحاكمة عن دورها التشريعي والقانوني , فتم تحويل كل سلطات المؤسسات الدينية إلى الدولة , وتم إعادة صياغة مفهوم التشريع بما يناسب الحاجة الهيومانية (الإنسانية) , ونقل سلطة التشريع من رجال الدين إلى الشعب , الذين تطورت آلية عملهم فيما يُعرف بالمجالس النيابية (البرلمانات) من انتخاب وتعيين حسب الظرف السياسي المهيمن. وإتخاذ العلم التجريبي أساس تشريعي أداتي يُمكن الرجوع إليه في حالة ما إذا كان هناك خلاف يُمكن فصله بطريقة علمية . وهذا الإتجاه الأخير هوما تعول عليه العلمانية في نشر رسالتها التنويرية , من خلال اكتساب قداستها لا من نصوص تستمد سلطتها من قوة علوية بل من نصوص علمية تستمد سلطتها من التجربة الإنسانية .ورغم ما يتمتع به هذا الاتجاه من قدرة على مخاطبة العقل السليم والوجدان إلا أن العلوم الإنسانية مازالت غير قادرة على حسم الكثير من الخلافات مع فضاء علماني آخر يرى في العلمانية حرية طرح وإكتساب .وما بين هذين الفضائين العلمانيين هناك فضاء ثالث يتمثل في تحديد العلاقة بينهما, و يُمكن أن ندعوه بفضاء التغيير المستمر , وهذا الفضاء يستم بأنه تفاعلي الطابع , يتسم بالصراعية مرة وبالإتفاق والتوائم مرة ,ومنه تنبثق القوانين وفيه تحدث العملية العقلية للتشريع , فالفضاء الأول والثاني كلاهما يعمل بمنأى عن الآخر , وإن كان الفضاء العلمي مازالت تحدده بعض القوانين الأخلاقية المكتسبة من حزمة الأديان القريبة (الدين المسيحي في الغرب والدين الإسلامي في الشرق, و الدين اليهودي في اسرائيل , و البوذية في الهند , على سبيل المثال) ومن الهيومناتية البعيدة , أو من إحداهما. بينما الفضاء الثالث هو نقطة التقاء الحاجة الإنسانية بما يتوافق مع ما تم اثبات صحته علمياً , وهنا يحدث التفاعل الذي تحدده عدة عناصر :



1: كفاءة النتيجة العلمية بخصوص القضية المطروحة.



2: حاجة المُشرع بخصوص القضية المطروحة .



3: مدى التوافق بين المُشرع وبين المجتمع الذي يعبر عنه .



4: ظروف فضاء الالتقاء بين الحاجة والنتيجة العلمية .



فقد تكون النتيجة العلمية بخصوص القضية المطروحة قاصرة عن بلوغ تحديد حاسم بخصوصها.واختلاف النتيجة العلمية بين مؤسسات علمية مختلفة يؤدي إلى اضطراب (القرار العلمي) بخصوص القضية. فتكون الحاجة الإنسانية هي المُحدد في حالة ما إذا كان ظروف فضاء التشريع ( فضاء التغيير المستمر) حرة. كالخمور مثلاً . فاختلاف النتائج العلمية حول أضرارها ومنافعها يجعل الحاجة الإنسانية هي المُتحكم في تقنينها, في حال غياب أي مرجعية أخرى. بمعنى أن تكون (الرغبة) هي القائمة بعملية التقنين فيكون القبول أو الرفض.



ولكي نستطيع حسم كل القضايا من خلال الفضاء العلمي والفضاء الحاجواتي ينبغي أن يكون للعلم نتائج كافية قادرة على اتخاذ كافة القرارات بخصوص عملية التشريع , ولأن العلم عملية لا متناهية التحصيل , فإن وجود العلك كله عملية مستحيلة ,وعليه يكون السؤال :



هل العلم الموجود يكفي لأن يتخذ قرار سليم بشأن كل القضايا المطروحة عليه ؟



هذا السؤال تُعرف إجابته من خلال نتائج التشريع في المجتمع .وما الغاية من المجتمع . ومن خلال عملية رصد طويلة دقيقة نستطيع أن نرى أن العلم الموجود حتى الآن غير قادر على حسم العديد من القضايا , خصوصا تلك القضايا الخاصة بالأخلاق . فالعلمانية عندما انحصرت بين فضائي العلم والرغبة , صار إبعاد الأخلاق (عملية حيادية) واجبة , وصارت الأخلاق نفسها موضوعاً للتجربة العلمية , وتم إيقاف مفاهيم إستدلال , إستقراء وغيرها لصالح التجربة العلمية وإعادة صياغة هذه المفاهيم لتناسب التجربة العلمية , وظهور مفاهيم جديدة تماماً بديلة ومغايرة تناسب مرحلتها الفكرية .



إن تحديد إجابات أسئلة عديدة تتوقف عليها العديد من القرارات بشأن قضايا وعلى سبيل المثال :



ما شكل المجتمع الذي نريده ؟ , كيف نريد شكل المستقبل ؟ , لماذا ؟



إجابات هذه الأسئلة في حالة ابعاد الجزء النفسي في الإنسان عن مقدماتها , تتحول الإجابات إلى الميكانيكة المُطلقة خضعت لقوانين المعامل , وأخذت صور كمية ورقمية .



فهل هناك تعارض بين العلم والرغبة ؟ وهل هناك تعارض بين العلم والإخلاق ؟ هل هناك تعارض بين العلم والرغبة والأخلاق ؟



إن المسئول الوحيد عن إجابة هذه الأسئلة هو العلم التجريبي وحده .فالأخلاق كمنظومة معروفة مسبقاً تتسم بالثبات وكذا الرغبة , بينما العلم التجريبي هو الوحيد الذي يتسم بالديناميكية والقدرة على التطور. وهو القادر على دراسة الأخلاق والرغبة معاً , بينما الأخلاق والرغبة فاقدة لقدرة البحث .



وبعيداً عن الدراسات التي تطرح الأخلاق كعنصر أساسي لا غنى عنه لفكر ما بعد العلمانية كأبحاث الفيلسوف الألماني (يورغن هابرماس) , وبعيداً عن شكل النظام العالمي الحالي الذي أدرك الكثير من (باحثيه الأكاديميين) أن العلم التجريبي وحده غير قادر على أن يكون مُحدداً لبنية قانونية تعمل كبديل للأخلاق ,أو أن يكون راسماً قديراً لشكل مجتمع يحيا حياة مدنية حقيقية , متطوراً يملك شتى أسباب القدرة على التطور , ويتسم بحد أدنى من الترابط الإجتماعي البنّاء , وقادرعلى أن يحدد شكل مستقبل أكثر تكيفاً مع البقاء . فإنه ينبغي في مصر أن يكون هناك سؤال رغم أن السؤال عالمي الطرح , وبعيداً عن الإعتقاد اللاهوتي وإثباته من عدمه .



هل نملك العلم الكافي لحسم جميع القضايا بطريقة لا تقبل الشك, أم أن الرغبة ستشارك العلم في الفضاء التشريعي ؟ أم أن التشريع عملية تجريبية تتسق والتطور العلمي وبذلك يخضع التشريع للتجريب بما يجعلنا نعيد تحديد مفهوم العدالة ؟



هذا السؤال الطويل القابل للتفكيك وإعادة التركيب . جعل العالم الغربي اليوم (مصدر الفكر العلماني الحديث) يحاول ترصيع الفضاء التشريعي بالأخلاق . وجعله من قبل يتخذ قرارات متناقضة كثيرة حدت من تصرفات كان لها أن تتسم بالحرية , وأطلق العنان لتصرفات غير علمية على حساب أخرى علمية . في الوقت الذي يحاول فيه العالم الثالث اللحاق بركب المرحلة العلمانية القديمة.



إن مصطلح (ما بعد العلمانية) يشبه تماما مصطلح (ما بعد الحداثة) مصطلحات تاريخية أنانية لحقبة معينة تفكر في المستقبل كعادة أي حقبة لكنها احتفظت لنفسها بتحديد شكل النهايات. فماذا بعد (ما بعد العلمانية)؟



يُمكن استخدام هذه المصطلحات كما هي ولكن بعد تفريغها من دلالتها , وعلى الأجيال القادمة أن تبحث لنفسها عن كلمة (بعد) أخرى !



إن عملية التصحيح المستمرة للفكر العلماني لهي من أهم مميزاته , ذلك أنه قابل للتطور بشكل تراكمي , تجعله قابل لمواكبة أهداف تطرأ على المجتمعات . ولكن هل هذه العملية المستمرة للتصحيح تعني أن مفاهيم مثل (العدل , الحق , المساواة...) قابلة للتطور ؟ وهل هذا التطور يعني بالضرورة أنه تطور للأفضل ؟ وهل كل اتجاهات التطور العلمانية هي اتجاهات قادرة على تحقيق الأهداف المنشودة ؟ وهل هناك صراع بين هذه الاتجاهات المختلفة ؟ إن الثراء العلماني يجعل للعلمانية جاذبية خاصة اكتسبتها أثناء جمود التطور الميداني للاديان (الفقه). وفي محاولة الفقه الديني اكتساب القدرة على الحسم في القضايا المتزايدة المطروحة مع الحفاظ على اتساقها مع الأصول الدينية الثابتة . جعل الفقه منافس بطىء أمام علمانية من أهم خصائصها القدرة العالية السريعة على تطوير مفاهيم أصولها .وإعادة إكساب النصوص الأصلية ( التي هي نفسها قابلة أيضا للتغيير) مفاهيم جديدة .



وإنه من الضروري أن نعرف أن الصراع العلماني الديني قد حُسم اجتماعياً (المجتمع العالمي) لصالح العلمانية في ظروف قدرية أو جبرية.



وأن التخلف الديني كان موجوداً في هذا الصراع . وأنه إن كان هناك دين يرى أن لديه القدرة على حسم الصراع لصالحه فالعالم مفتوح.



إنه ليس من المعقول أن يتم اقناع البشرية بصحة دين / توجه أيديولوجي قاصر عن حل قضاياه . هذه المشكلة هي مشكلة منهج ومشكلة القائمين عليه .أما من الناحية الأكاديمية فإن دراسة دين /توجه أيديولوجي ما بعيداً عن القائمين عليه هي مسألة علمية بحتة لا شأن للشعوب (في صورتها المجتمعية) بتقصيها .ولكن يجب طرحها من الإنسان إلى الإنسان .



إن العلمانية الصحيحة لا تخالف الدين الصحيح . وإن الدين الصحيح لا يُخالف العلمانية الصحيحة .







محمد العريان .







07/31/2013



مصرنا ©



نُشر بجريدة مصرنا





via منتديات تغاريد http://vb.tgareed.com/t393312/

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق