واحد من أكبر علماء الفلك وأكثرهم دقَّة في أرصاده الفلكية التي أجراها من مرصد المقطم بمصر، وهو المخترع الحقيقي للبندول أو رقَّاص الساعة، وهو مؤسِّس علم الفلك الحديث، وصاحب أدق جداول لفروق التوقيت، وأُطلق اسمه علي إحدي مناطق السطح غير المرئي من القمر؛ إنَّه العالم الفلكي المسلم أبو الحسن بن يونس الصدفي المصري.
نسبه ومولده
هو أبو الحسن علي بن أبي سعيد عبد الرحمن بن أحمد بن يونس بن عبد الأعلى الصدفي المصري، ولقب الصدفي اختلفت عليه الآراء؛ فمنها من يقول إنَّه يرجع إلى بلده صدفا بصعيد مصر، و منهم من يرجعه إلى قبيلة الصدف، وهي قبيلة يمنية من بطون حمير، هاجرت إلى مصر وسكنت بها، ومنهم من يرجع الاسم إلى كون أحد أجداد ابن يونس المصري كان يعمل بمهنة تطعيم الأثاث الخشبي بالصدف. ولقد وُلد في مصر في النصف الأول من القرن الرابع الهجري، حوالي سنة 342هـ=950م.
نشأته العلمية
ينتمي ابن يونس المصري إلى أسرة اشتهرت بالعلم والفقه أواخر عهد الدولة الإخشيدية بمصر (323-358هـ=934-968م)، فقد كان أبوه محدِّثًا ومؤرِّخًا كبيرًا، وهو أبو سعيد عبد الرحمن بن يونس (281-347هـ=894-958م)، مُحدِّث مصر ومؤرِّخها، وأحد العلماء المشاهير فيها، وهو صاحب تاريخ ابن يونس المشهور، قال ابن كثير: "كان أبوه من كبار المحدثين الحفاظ، وقد وضع لمصر تاريخًا نافعًا يرجع العلماء إليه فيه". وقال ابن ناصر الدين: كان من الأئمَّة الحفاظ والأثبات الأيقاظ". وجدُّه الأعلى هو يونس بن عبد الأعلى (170-264هـ=787-877م)، صاحب الإمام الشافعي وصديقه، وكان فقيه مصر وعالم الحديث فيها، قال الإمام الشافعي: ما رأيت بمصر أحدًا أعقل من يونس. كما كان من المتخصصين بعلم النجوم.
قال الإمام الذهبي عن الفلكي ابن يونس: "روي عن: محمد بن علي بن أبي الحديد، عن جدهم يونس. روى عنه: الفضل بن صالح الروذباري، أحد مشيخة الرازي... ولا تحل الرواية عنه، فإنه منجم".
مكانته لدى الدولة العبيدية الفاطمية
نشأ أبو الحسن ابن يونس في ظل الدولة العبيدية الفاطمية التي دخلت مصر منذ سنة 358هـ=968م، وقد حظي ابن يونس بمكانةٍ كبيرةٍ لدى الخلفاء العبيديين؛ لِمَا ظهر منه من علامات النبوغ في علم الرياضيات والفلك، فالتحق بخدمة الخليفة العبيدي الفاطمي العزيز بالله (365-386هـ=975-996م) الذي أدرك قدرته العلمية فتعهَّده بالرعاية والتشجيع ورفع منزلته، ووفَّر له ما يلزمه لمتابعة بحوثه الفلكية والرياضية، وبعد وفاة العزيز واصل ابن يونس العمل في عهد ولده الحاكم بأمر الله (387-411هـ=996-1020م) الذي أسَّس "دار الحكمة" وزوَّدها بمكتبة كبيرةٍ أطلق عليها اسم "دار العلم"، وقام ببناء مرصدًا لابن يونس علي جبل المقطم قرب الفسطاط بمدينة القاهرة، في مكانٍ يُقال له بركة الحبش، وجُهِّز بكلِّ ما يلزم من الآلات والأدوات.
إسهامات وإنجازات ابن يونس المصري في المجالات العلمية
إسهاماته في علم الفلك
تمكَّن ابن يونس من محلِّ عمله بمرصد المقطم من رصد كسوفين للشمس عامي 366 و367هـ=977م و978م، فكانا أول كسوفين تم تسجيلهما بدقَّةٍ متناهيةٍ وبطريقةٍ علميَّةٍ بحتة، كما رصد خسوفًا للقمر في الفترة نفسها، أثبت فيه تزايد حركة القمر، وحَسَب ميل دائرة البروج بدقَّةٍ مثيرةٍ للإعجاب، فجاءت أدق وأتقن ما عرف قبل إدخال الآلات الفلكية الحديثة.
وتقول عنه "موسوعة علم الفلك في العصر الإسلامي": إنه رصد أكثر من عشرة آلاف مدخلًا لمواقع الشمس، لعدة أعوام، مستعملًا "إسطرلابًا كبيرًا"، وهو آلة فلكية قديمة تُظهر كيف تبدو السماء في مكانٍ محدَّدٍ عند وقتٍ محدَّد، بلغ قطره حوالي 1,4 متر، وبقيت ملاحظاته لخسوف القمر مستعملة لقرون.
أما ملاحظاته الأخرى فألهمت بيير لابلاس، أحد أهم علماء فرنسا، في إبداع نظريتي اعوجاج مسير الشمس، وعدم المساواة بين المشترى وزحل.
مخترع البندول
وابن يونس المصري العالم المسلم هو الذي اخترع البندول أو رقاص الساعة، وبذلك يكون قد سبق العالم الإيطالي جاليليو بما يزيد علي600 عام، وكانوا يستخدمونه لحساب الفترات الزمنية أثناء الرصد، وفي قياس الزمن لكونه أدق من الساعات المتوفرة في ذلك العصر، واستعمل بعد ذلك في الساعات الدقاقة. كما أظهر ابن يونس براعة كبرى في حل كثيرٍ من المسائل العويصة في علم الفلك.
إسهاماته في علم الرياضيات والمثلثات
ولقد برع ابن يونس في علوم الرياضيات وخاصة علم المثلثات، وله فيها بحوث قيِّمة ساعدت في تقدُّم علم المثلثات، وفاقت بحوثه فيها بحوث كثيرٍ من الرياضيِّين، وحل مسائل صعبة في المثلثات الكروية؛ حيث استعان في حلِّها بالمسقط العمودي للكرة السماوية على كلٍّ من المستوى الأفقي و مستوى الزوال.
فابن يونس المصري هو أول من وضع قانونًا في حساب المثلثات الكروية، وكانت له أهمية كبرى عند علماء الفلك قبل اكتشاف اللوغاريتمات؛ إذ يُمكن بواسطة ذلك القانون تحويل عمليات الضرب في حساب المثلثات إلى عمليات جمع، فسهَّل حلَّ كثيرٍ من المسائل الطويلة المعقدة، ولذلك فإنَّه يُعتبر بحق ممَّن مهَّدوا لاكتشاف اللوغاريتمات، وحتى عام 1800م نجد العالم الفرنسي لابلاس يستفيد من كتب ابن يونس المصري في دراساته وأبحاثه.
الزيج الحاكمي
وكلمة زيج كلمة فارسية (زيك)، ومعناها بمفهومنا الحديث الجداول الفلكية الرياضية، وعلم الزيج: هو أحد فروع علم الهيئة، يتعرف منه مقادير حركات الكواكب سيَّما السبعة السيَّارة وتقويم حركاتها وإخراج الطوالع وغير ذلك، وبه يُعرف موضع كلِّ واحدٍ من الكواكب -سيَّما السبعة- بالنسبة إلى فلكها وإلى فلك البروج، وانتقالاتها ورجوعها واستقامتها وتشريقها وتغريبها وظهورها وخفائها في كلِّ زمانٍ ومكان، وبه يُعرف كسوف الشمس وخسوف القمر وما يجري هذا المجرى، وبه يُستخرج تقويم فصول السنة وسمت القبلة وأوقات الصلاة.
ويُعتبر الزيج الحاكمي من أشهر مؤلَّفات ابن يونس المصري، ويُنسب لفظ "الحاكمي" إلى ابن يونس، الذي أطلق هذا الاسم على الكتاب تيمُّنًا برعاية الحاكم بأمر الله لعلمه؛ فقد أمره العزيز بالله الفاطمي أن يصنع زيجًا فلكيًّا، وهو عبارة عن جداول فلكيَّة خاصَّة تُبيِّن مواقع النجوم وحركتها عبر الفصول والسنين بالحسابات الرياضيَّة، فبدأ به سنة 380هـ=990هـ، وأتمَّه في عهد الحاكم بأمر الله سنة (398هـ=1007م)، وسمَّاه "الزيج الحاكمي" أو "الزيج الكبير الحاكمي".
وكان هذا الزيج المعتمد لدى علماء مصر في حساب التقاويم وتناول المسائل الفلكية، ولكن للأسف لم يصلنا كاملًا؛ بل ظلَّت أجزاءٌ من فصوله في مكتبات مختلفة متناثرة حول بلاد العالم.
ويُعدُّ هذا "الزيج الحاكمي" من أشهر أعمال ابن يونس، والذي يقول عنه ابن خلكان في (وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان): "وهو زيجٌ كبيرٌ رأيته في أربع مجلَّدات، بسط القول والعمل فيه وما أقصر في تحريره، ولم أرَ في الأزياج على كثرتها أطول منه، وذكر أنَّ الذي أمره بعمله وابتدأه له العزيز أبو الحاكم صاحب مصر". وكان قصده من هذا الزيج أن يتحقَّق من صحَّة أرصاد الذين سبقوه وأقوالهم في الثوابت الفلكية، وأن يُكمل ما فاتهم، وهذا الزيج يقوم مقام الرسائل التي ألَّفها علماء بغداد سابقًا. وقال الذهبي: "وأهل التنجيم يخضعون لفضيلة هذا التأليف".
واشتمل الكتاب على 81 فصلًا، في عددٍ من المكتبات العالمية مثل إكسفورد، وباريس، والإسكريال، وبرلين، والقاهرة، وقد قام العالم الفلكي كوسان Caussin بنشر وترجمة أجزاء هذا الزيج التي فيها أرصاد الفلكيين القدماء وأرصاد ابن يونس نفسه عن الخسوف والكسوف، واقتران الكواكب، إلى اللغة الفرنسية، وكان هدف ابن يونس من تأليف كتابه هو تصحيح أرصاد وأقوال الفلكيين الذين سبقوه وتتميمها، وكانت تعتمد مصر على هذا الكتاب في تقويم الكواكب.
وقد لوحظ في الترجمة الفرنسية للزيج أنَّ الصفحات التي شرحها دي برسفال تُقابل الصفحات العربية التي تُرجمت عنها ونشر فيها بعض فصول هذا الزيج وذلك في باريس سنة1804م، ويذكر أنَّ المخطوطة التي نقل عنها دي برسفال محفوظة في مكتبة جامعة ليدن بهولندا, وذكر ابن خلكان أنَّ ابن يونس أصلح زيج يحيي بن منصور، وعلي هذا الإصلاح كان تعويل أهل مصر في تقويم الكواكب في القرن (الرابع والخامس الهجريين=العاشر والحادي عشر الميلاديين)، وكذلك جمع ابن يونس في مقدمة زيجه كلَّ الآيات المتعلِّقة بأمور السماء ورتَّبها ترتيبًا جميلًا بحسب مواضيعها؛ فقد كان يري أنَّ أفضل الطرق إلي معرفة الله سبحانه وتعالى هو التفكير في خلق السماوات والأرض.
من مؤلفات ابن يونس
لابن يونس العديد من المؤلفات، ولكن أهم كتابٍ له هو الزيج الحاكمي، وله "الزيج الصغير" ويُعرف باسم "زيج ابن يونس"، و يختصُّ بالجداول الفلكية والأرصاد المرتبطة بمصر، وتوجد منه نسخة كاملة بدار الكتب المصرية.
وله كتاب "بلوغ الأمنية فيما يتعلق بطلوع الشعرى اليمانية"، وكتاب بعنوان "الظل"، عن حركة الشمس والظل، وكتاب "غاية الانتفاع"؛ وهو عبارة عن جداول لمواضع الشمس وجداول لمواقيت الصلاة في الأماكن المختلفة؛ أي فروق التوقيت الآن.
و ألَّف -أيضًا- كتاب "الميل"، وهو عبارة عن جداول حركة وانحراف الشمس، وكتاب "التعديل المُحكم"، عن معادلات الكسوف والخسوف، وكتاب "البندول" عن ابتكاره الأصيل بندول الساعة، الذي نُسِب للإيطالي جاليليو، لكن صُحِّح الخطأ، وعرف العالم فيما بعد أنَّ صاحب البندول هو ابن يونس الصدفي، ومن مؤلَّفاته -أيضًا- كتاب في التاريخ بعنوان "تاريخ أعيان مصر"، وكتاب في الموسيقى بعنوان "العقود والسعود في أوصاف العود".
فلسفة ابن يونس
لم يكن ابن يونس يؤمن إلا بما اقتنع به عقله، كما لم يأبه بما كان الناس يقولون عنه، وتتلخص فلسفته في ثلاث نقاط هي:
1- الأخذ بالمبدأ العلمي القائم على الرصد والقياس، واتخاذ الكون وما فيه معلِّمًا، منه يستنبط الحقائق، وإليه تُرد.
2- تدعيم الإيمان عن طريق تلمُّس آيات الخالق المنبثَّة في الكون.
3- ممارسة المتع المشروعة. فيذكر ابن خلكان عن أبي الحسن المنجم الطبراني أنَّه طلع معه مرَّةً إلى جبل المقطم، وقد وقف لرصد كوكب الزهرة، فنزع عمامته وثوبه ولبس قميصًا أحمرًا ومقنَّعة حمراء تقنَّع بها، وأخرج عودًا فضرب به والبخور بين يديه، فكان أمره عجبًا من العجاب.
وقال الأمير المختار المعروف بالمسبحي في تاريخ مصر: "كان ابن يونس المذكور أبله مغفَّلًا، يعتم على طرطورٍ طويلٍ ويجعل رداءه فوق العمامة، وكان طويلًا، وإذا ركب ضحك منه الناس لشهرته وسوء حاله ورثاثة لباسه، وكان له مع هذه الهيئة إصابة بديعة غريبة في النجامة لا يُشاركه فيها غيره".
ويُحكى أنَّ الحاكم العبيدي قال -وقد جرى في مجلسه ذكر ابن يونس وتغفُّله-: دخل إلى عندي يومًا ومداسه بيده، فقبَّل الأرض وجلس وترك المداس إلى جانبه، وأنا أراه وأراها، وهو بالقرب مني، فلمَّا أراد أن ينصرف قبَّل الأرض وقدَّم المداس ولبسه وانصرف. وإنَّما ذكر هذا في معرض غفلته وقلَّة اكتراثه.
تقدير العلماء له
يُعدُّ ابن يونس المصري من مشاهير الرياضيين والفلكيين الذين ظهروا بعد البتاني وأبي الوفاء البوزجاني، عبقرية علمية مصرية أبهرت العالم، ويعتبر رائد الفلك الحديث، وأهم من قام بتحديد توقيت خسوف القمر وكسوف الشمس بكل دقة، وصاحب أدق الجداول لحساب مواقع شروق وغروب الشمس، وفروق التوقيت، لذا يعدُّه المستشرق سارتون من أعظم علماء القرن العاشر الميلادي (الرابع الهجري)، وأعظم فلكي ظهر في عصره.
وقال في حقه ابن خلكان: "كان مختصًا بعلم النجوم متصرفًا في سائر العلوم بارعًا في الشعر... وكان قد أفنى عمره في الرصد والتسيير للمواليد وعمل فيها ما لا نظير له". وقال ابن كثير في ترجمته: "اشتغل في علم النجوم فنال من شأنه منالًا جيِّدًا، وكان شديد الاعتناء بعلم الرصد...". وقال الأمير المسبحي: "وكان متفنِّنًا في علومٍ كثيرة، وكان يضرب بالعود على جهة التأدُّب، وله شعرٌ حسن".
اسمه على سطح القمر
وتقديرًا لجهود ابن يونس الفلكية والرياضية، أُطلق اسمه على إحدى مناطق السطح غير المرئي من القمر.
وفاة ابن يونس
تُوفِّي ابن يونس المصري بكرة يوم الاثنين لثلاثٍ خلون من شوال سنة عام 399هـ=1009م، فجأة، وصلَّى عليه في الجامع بمصر القاضي مالك بن سعيد بن أحمد بن محمد بن سليمان بن ثواب، ودُفن بداره بالفرائين.
________________
المصادر والمراجع:
- ابن خلكان: وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، تحقيق: إحسان عباس، الناشر: دار صادر – بيروت، ج3، د.ت.
- الذهبي: تاريخ الإسلام، تحقيق: عمر عبد السلام التدمري، الناشر: دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة: الثانية، 1413هـ=1993م.
- ابن كثير: البداية والنهاية، الناشر: دار الفكر، عام النشر: 1407هـ=1986م.
- مجلة المعرفة - الصادرة عن مؤسسة الأهرام، القاهرة، 1972م، العدد 20.
- موقع موهوبون - موقع المبدعين العرب.
- محمد رضا عوض: ابن يونس المصري .. مؤسس علم الفلك الحديث، مؤسسة الأهرام.
- ابن يونس الصدفي .. صعيدي اسمه على سطح القمر، موقع المندرة.
- ابن يونس، موسوعة العلوم والتكنولوجيا.
قصة الإسلام
ابن يونس المصري
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق